آخر الإدراجات

سميائيات الاحتجاج خطاباته وبلاغته وقوته الإقناعية

سميائيات الاحتجاج خطاباته وبلاغته وقوته الإقناعية

مقدمة

    تحاول هذه الدراسة الإجابة عن ظاهرة تواصلية عرفت في الآونة الأخيرة انتشارا ملحوظا ومهولاً في كثير من المجتمعات العربية والغربية على حدّ سواء، يتعلّق الأمر بظاهرة الاحتجاج أو الحراك المجتمعي وهي ظاهرة اجتماعية وسياسية. وسوف نتناول هذه الظاهرة ونمعن النظر فيها من زاوية السميائيات الثقافية، مستعينين بالنموذج التأويلي الذي صاغه كلاّ من يوري لوتمان وأمبرتو إيكو، لنقيس الإمكانية الإرشادية والتحليلية لهذا النموذج النظري، ونقيم مقدار فائدته في فهم الظواهر الثقافية وتحليلها.

   ولذلك، فإن دراستنا ستركّز على موضوع الاحتجاج من وجهة نظر لغته في أبعادها اللفظية والبصرية وفي بلاغتها الإقناعية وطرقها التأثيرية من جهة، كما ستبحث في طبيعة العلاقة بين لغة الحجاج والواقع الاجتماعي والثقافي من جهة أخرى، إيمانا منّا أن السميائي، لا يشتغل فقط بطريقة استنباطية، انطلاقا من التحليل المجرد للمعجم وحقوله الدلالية، ولكن أيضا بطريقة استقرائية، عبر الملاحظة المنهجية للواقع الاجتماعي. وبمعنى آخر، إن الحياة الاجتماعية والثقافية تمتلئ دائمًا بالصراع، فكل معركة اجتماعية، هي، قبل كل شيء، معركة حول معاني مفردات معينة وقيم معينة وأبطال معينين. وإن السميائيين دائما ما يلقون نظرة مزدوجة حول وقائع الحياة الاجتماعية: فهُم يدرسون الكلمات، وباقي أشكال التعبير الإنساني لفهم دلالتها، وبعد ذلك يتساءلون عن بنية المعنى لفهم أفضل لكل تجلياته: فما هي الظواهر التواصلية المعنية بمصطلح الاحتجاج؟ ما هي القرائن السياقية الدّالة على الاحتجاج؟ كيف تكون علامات ونصوص وخطابات الاحتجاج واضحة؟ ما هي التّسنينات المعبّرة عنه؟ كيف يمكن قراءة معنى الاحتجاج وتأويله حسب جمهوره؟ وما هي الآثار السميائية والتداولية المترتبة عن ذلك؟ وكيف تتفاعل ثقافة الاحتجاج  مع تطور وسائل الإعلام، وخاصة الرقمية منها؟ وبشكل أكثر تحديدا، كيف يمكننا وصف ديناميات الاتصال التي تميز الاحتجاج في علاقته مع الشبكات الاجتماعية؟[1] ذلك المجتمع الإلكتروني الذي راح يدعم الكثير جدّا من الاحتجاجات التي شاعت في سنواتنا الأخيرة، وخاصة حين نركز ملاحظاتنا على الفترة الممتدة بين 2011-2017 من خلال المبادرات التي ظهرت على شبكة التواصل الاجتماعي.

 سنفعل ذلك من خلال التركيز على شبكة الأنترنيت بنوع خاص، وعلى التأويلات التي يمحو بعضها بعضًا، وعلى الكيفية التي تفاعلت بها تلك التأويلات فيما بعد مع هموم ثقافية جديدة، ومطالب جديدة للمعنى؟ بمعنى آخر، نحن مطالبون في هذه الدراسة بالإجابة عن سؤال هو: كيف تشيّد ثقافة الاحتجاج معانيها وأنساقها الدلالية؟

  1. كيف نقارب الاحتجاج سميائيا؟

   هناك مقاربات عدّة تناولت الاحتجاج من زاويا نظر مختلفة: فالمؤرخون يحاولون فعل ذلك انطلاقا من البحث عن الوثائق وإيجادها وفرزها وتمحيصها بدقّة وأناة، وإن عملا كهذا سوف يساعدهم على فهم كيف يوصل الاحتجاج الدولة إلى نقطة الانهيار. بالإضافة إلى هذا فإنهم سيقومون بدراسة المسالك الصعبة والمتشعّبة، التي أعطت الاحتجاج شكلا محققا، وتطورا على مدى الزمان والمكان، فصار ثورة أسفرت عن مشاركة قادة مع أسماء لا تنسى ومع عامة الناس، وكُلّلت بالنجاح رغبة منها في تغيير وجه المجتمع والدولة أو حتى الإنسانية جمعاء، أو صادفت عقبات لا يمكن التغلب عليها أو شهدت تراجعا وانسحابا أو سقطت بفعل خيانة. بل إن بعض المؤرخين الجدد اليوم لا يقيدون أنفسهم بالوثيقة وما تفرضه من تحديدات، إنهم يستعملون كافة ما يستعمله الإنسان: اللغة والعلامات وكل مصدر آخر يمكن الحصول عليه. وباختصار، فإن عليهم أن يكونوا منفتحين على كل مقاربات العلوم الأخرى، كالجغرافية، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس .إن عمل المؤرخين للكتابة عن الاحتجاج أمر ضروري. ولكن بنفس القدر من الأهمية هو عمل الباحثين في علم الاجتماع أيضا: ما هي الظروف الاجتماعية التي تحدّد وتساهم في تجميع الأفراد داخل جماعات احتجاجية؟ ثم ما هي العلاقة بين الاحتجاج والسلطة؟ وما هي القيم والمثل العليا التي تدفع المحتج لممارسة هذا الفعل؟ ما الذي يجعله يثور ضدّا على القيود والعبودية والظلم؟ إن المقاربة النفسية لا تقلّ أهمية في تناولها لموضوع غاية في التعقيد، إذ كيف نحصل أو ننجز تجربة حميمية لمشهد احتجاجي؟ ما هي القوى الفكرية والعاطفية الفاعلة التي تدفع الفرد للنضال ضدّا على الوضع القائم؟ ما الذي حمله، بالمقابل، على قبوله والرّضى به؟[2]

إن جميع المقاربات السالفة والأسئلة التي طرحتها يعدّ شيئا مهمّا في معرفة معمقة لظاهرة الاحتجاج. ومع ذلك، فإن السميائيات في مقاربتها للظاهرة تنحو منحى مختلفا، إذ تركز ليس فقط على الشروط التاريخية والأسباب الاجتماعية والديناميات النفسية التي تميز الاحتجاج، ولكنها تركّز أيضا، على الاحتجاج باعتباره ظاهرة دلالية وتواصلية، أي باعتباره ظاهره متموضعة في قلب الثقافة تنطلق من داخل شبكة نُسجت من خيوط سميائية وتأويلية وأصبحت بعض وحداتها الثقافية مكونات أساسية لكثير من مساراتها الدلالية. كما تركز على لغة الاحتجاج في مستوياتها المتعددة وعلى الاحتجاج باعتباره لغة وثقافة. وهذا يعني أن السميائيات تهتم بالعلامات والخطابات والنصوص التي تتحدث عن الاحتجاج وتعطيه كافة تحققاته. إنها تهتم بالأصوات والألوان والأشكال والحركات.[3]  

   وتقترح السميائيات مجموعة من المفاهيم والطرائق للتحقّق أولاّ من الممارسات والنصوص والأشياء والتفاعلات الاجتماعية، وأساليب الحياة وأنماط الوجود الجماعي والمجتمعي. فهي قادرة على بناء المعنى، والاشتغال إلى جنب جميع التخصصات الأخرى داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تساهم في إرساء دعائم هذا المعنى، كل من زاوية نظره الخاصة، حيث: اللسانيات والتاريخ والفلسفة وعلم النفس والأنثربولوجيا وعلم الآثار والاقتصاد والتحليل النفسي وعلم الاجتماع والفن… وبوسع السميائيات الذهاب بعيدا في التحليل، شريطة أن تكون قادرة على اختيار المستوى أو المستويات المحايثة والملائمة.[4] يتعلّق الأمر بمحاولة استيعاب وفهم بأيّ شكل وبأيّ أثر سميائي تؤثر الاختيارات التكنولوجية والاقتصادية والثقافية على تحولات مجتمعاتنا وعلى نُظمنا العقائدية والتحديدات التي تقترحها عموما وتوفّرها لكل واحد منّا.

  إن مستوى البحث السميائي النافذ والمناسب سوف يتجاوز، بالتالي التحليلات العادية والأكثر شيوعا، ليطرق باب فرضيات قرائية غاية في الدقّة والفعاّلية والتأثير؛ خاصة على مستوى تناوله للنصوص والصور تحديدا. ويمكن الإمساك بهذا المستوى الأمثل، على الأقلّ، في الممارسات والتفاعلات الاجتماعية، وإن أمكن على مستوى أساليب الحياة وأنماط الوجود الاجتماعي، وبشكل عام كل ما يتعلق بالتجربة الإنسانية في شموليتها. إن هذه المستويات التحليلية، بحكم تعريفها وطبيعتها، تدمِج موضوعات تنتمي لمستويات أخرى ( نصوص وعلامات ودعائم إليكترونية ووسائط رقمية وإنتاجات ثقافية عامة)، يتعلق الأمر إذن بجهاز نظري ومنهجي للسميائيات يلزمنا، في نهاية المطاف تفعيله. [5]

  ولا تدّعي هذه الدراسة تقديم رؤية موسوعية للاحتجاج، حتى لو أرادت لنفسها ذلك، فإذا كان الاحتجاج مرتبطا بالطبيعة الإنسانية الطامحة للتغيير، وإذا كانت كل عناصر الواقع قادرة على أن تصير علامات داخل خطاب احتجاجي، فإن موسوعة كاملة لن تكون كافية لوصف جميع النصوص والممارسات والثقافات. ومع ذلك فإن الاحتجاج على أبسط شيء يمكنه أن يكون فتيلا في نشوب مسيرات وتظاهرات مهيبة قد تؤدي إلى الثورات الكبرى ولنا في التاريخ مجموعة من العبر. وكل شيء في هذه الاحتجاجات يمكن أن يكون موضوعا لدراسة سميائية، وكل شيء ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار لبناء »موسوعة احتجاج« مثالية. لذلك فإن دراستنا ستتناول بالتحليل من منظور سميائي مجموعة من الأمثلة والحالات الدالة على خطاب الاحتجاج وهي حالات منتقاة بعناية، كما سنركز على العناصر المميزة للغة الاحتجاج التي تكوّن تركيب هذه اللغة والتي تحدّد بالمقابل قوتها التداولية وطرقها الإقناعية. بمعنى آخر، إن عمل الباحث السميائي الثقافي يتمثل في البحث عن الانتظام في تحميل المعنى على الدوال وتحديد معنى شبكة الدّوال، حتى يتم تحديد شبكات العلاقات المتداخلة والجسور والظروف المحيطة التي تُعيِّن الملامح السائدة لثقافة الاحتجاج. ويمكن للسميائيات أن تفيدنا في إعطاء تعريف دقيق، وواضح للحقل الدلالي الدّال على كلمة احتجاج كما تنبّهنا للتغييرات التي يمكن أن تلحق بالكلمة ليس فقط في المرور من لغة لأخرى أو من ثقافة لأخرى، بل في التغييرات الدياكرونية التي تلحق الكلمة داخل اللغة والثقافة نفسها. إن السميائيات تحاول رسم خريطة لهذه التحولات ومن ثمّ بناء خطاطة توضيحية تمكننا، أساسا، من صياغة هذا الحقل الدلالي من خلال المقارنة والتباين مع مصطلحات وحقول دلالية مجاورة.

   إن السميائيات تساعدنا مع ذلك على التمييز بين العديد من المصطلحات ذات الصلة بالحقل الدّال على “الاحتجاج” فما هو الفرق مثلا بين: الاحتجاج والخلاف والاِعْتِرَاض والإِبَاء والاستنكار والاستياء والاعتراض والتَبَرُّم والرّفْض والشّجْب والشّكْوَى وعَدَم القُبُول والمُطَالَبَة والمُعَارضَة والمُقاوَمَة والمُمَانَعَة والسّخط وتبادل الاتهامات والتمرّد والتخريب والإثارة والارتباك والفتنة والعصيان…؟

   اقتداء بأعمال لسميائي ألجيرداس جوليان غريماص، فإن أهمّ نقطة سوف تساعدنا على تحليل ظواهر من هذا النوع ستكون أوّلا هي المعاجم، لأن التعريفات التي يقدمها مؤلفو هذه المعاجم تسعى بشكل مكثّف لوضع خريطة طريق تبرز من خلالها الكيفية التي توضح وتُمفصِل بها هذه المعاجم الحقل الدلالي داخل سياق لساني أو ثقافي أو تاريخي.

  • الاحتجاج: مجالاته الدلالية

جاء في لسان العرب مادة (حجج) ما يلي:[6]

  • حجج

 الحَجُّ: القصدُ. حَجَّ إِلينا فلانٌ أَي قَدِمَ؛ وحَجَّه يَحُجُّه حَجّاً: قصده. وقد حَجَّ بنو فلان فلاناً إِذا أَطالوا الاختلاف إليه؛

  • احتجَّ:
  • احتجَّ بكذا استند إليه، اتَّخذه حُجَّةً له وعُذرًا.
  • احتجَّ عليه: أقام الحُجَّةَ والبرهانَ وعارضه مستنكرًا رافضًا فعله.

تعريف و معنى اِحْتِجاج في معجم المعاني الجامع[7]

  • اِحْتِجاج: (اسم) اِحْتِجاج: مصدر اِحتجَّ والجمع: احتجاجات ومصدر احتجَّ بـ/ احتجَّ على: اعتراض واستنكار. احتجاج رسميّ: بيان مكتوب يتضمّن اعتراضًا على حالة راهنة ومطالبًا بتغييرها.

المعجم: المعجم الوسيط[8]

  • اِحْتَجَّ
  • ·       ح ج ج. (فعل: خماسي لازم متعد بحرف). اِحْتَجَجْتُ، أَحْتَجُّ، اِحْتَجَّ، مصدر اِحْتِجَاجٌ .
  • احْتَجَّ بِكَلاَمِهِ: اِتَّخَذَهُ حُجَّة. ظلَّ الْمُتّهَمُ يَحْتَجُّ بِحُجَجهِ عَلَى بَرَاءتِهِ: يُقَدِّمُ حُجَجًا .

اِحْتَجَّ العُمَّالُ عَلى سُوءِ الْمُعَامَلَةِ وَنَقْصِ الأُجُورِ: رَفَعُوا اِحْتِجَاجاً مُسْتَنْكِرِينَ سُوءَ الْمُعَامَلَةِ. اِحْتَجَّتِ النِّقَابَاتُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي أَسْعَارِ الْمَوَادِّ الغِذَائِيَّةِ.

يستفاد من هذه المدوّنة أن الاحتجاج يأتي بمعان أهمها:

القصد والاختلاف والاِعْتِرَاض والإِبَاء والاستنكار والاستياء والتَبَرُّم والرّفْض والغضب والشّجْب والشّكْوَى وعَدَم القُبُول والمُطَالَبَة والمُعَارضَة والمُقاوَمَة والمُمَانَعَة…

و أضداد كلمة اِحْتِجَاج كما جاءت في قاموس المعاني هي: الامتثال والانسجام والتأسِّ والتّأكِيد والتّأيِيد والخُضُوع والدّعم والرّضوخ والرّضى والقَبُول والمُسَانَدَة والمُعاونَة والمُوافَقَة والمُوالاة.

    إن أول صعوبة، جوهرية، يواجهها هذا البحث تتمثل في إظهار أن الاحتجاج ليس، كلمة يُطابقها تعريف دلالي واحد بل، هي كلمة متغيرة تتغير حسب الاستعمالات اللغوية، وتختلف هذه الدلالة حسب مجالات التداول الاجتماعي للمعنى، والتي تتطور بسرعة مع مرور الوقت وارتباطا مع أحداث الحياة السياسية الوطنية والدولية. ومع ذلك فإن فهم حدود هذه الدلالة أمر لا غنى عنه للتحكم في موضوع البحث وفي تحري الدقّة حول ما يترتب عليه من آثار في الواقع الاجتماعي: فماذا نقصد اليوم «بالاحتجاج؟ وما هي التمثّلات المعرفية والوجدانية والمقاصد التداولية التي تُثار في مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية عندما يستعمل هذا المصطلح؟

يشكل التعريف القاموسي نقطة انطلاق للبحث الدلالي، ولكن لا ينبغي أن يكون نقطة الوصول. فالعلامة ليست شيئا يحل محل شيء آخر، بل هي ما يجعلنا نتعرف على شيء إضافي، إنها دائما وافد جديد.[9] فالشرط في العلامة إذن ليس شرط الاستبدال بل وجوب تأويل محتمل. وكما سيتضح فإن العلامة هي توجيه للتأويل وآلية تقود، انطلاقا من مثير أولي، إلى جميع الاستنتاجات التأويلية الأبعد شأوا. وبمعنى آخر، إن ما هو أهمّ ليس فقط بالنسبة للسميائيات، ولكن حتى بالنسبة للطلب الاجتماعي للمعرفة، هو في الواقع الكيفية التي تؤدي فيها التوترات والتطورات الاجتماعية والثقافية إلى إعادة صياغة وبالتالي إعطاء تعريف جديد للحقل الدلالي للاحتجاج، ومن شأن هذا التعريف الجديد أن يؤثّر بصورة نسقية في مؤلفي المعاجم اللاحقة. فعندما تصف مثلا بعض وسائل الإعلام هذا الفعل وتعبّر عنه بأوصاف دالّة مثلا على: الشّغب أو التمرّد أو الفوضى ونجد في المقابل وسائل إعلام أخرى تصف الحدث فتصفه بمواصفات دالّة على الاحتجاج، ندرك أنهما يظهران تعارضا وهو تعارض يتمحور حول التعابير الدلالية المختلفة للمصطلحين. ويستخدم هذا الاختلاف في تأويل هذه الظواهر وفق الإيديولوجيات والمصالح المتناقضة. فمصطلحات مثل: شغب أو تمرّد أو فوضى تكون أشبه بسيناريو الفتنة والتي لا تتوافق مع أي هدف سياسي محدد وتؤدي إلى تظاهرات وبعدها إلى العنف. وبالمقابل، فإن كلمة مثل احتجاج تملك سيناريوها مختلفا، حيث يكون العنف عموما تحت السيطرة لأن رهان الاحتجاج هو تحقيق هدف سياسي محدّد.

وتُحدِّد ظاهرة الاحتجاج أربع صفات أساسية، وهي بالتالي ما يميّز بنيتها السميائية العميقة. وهي:

  • الهدف أو موضوع القيمة،
  • –       الخصومة أو العداء،
  • التعبيرية،
  • التفاوت في القدرة على الفعل والتأثير قصد الوصول للهدف المحدد ( تفاوت الفاعلية.)

فأنا أستطيع أن أحتج لأن لديّ هدف محدد أطمح به للتغيير، في مواجهة خصم معين لذا يلزمني اختيار استراتيجية تعبيرية للتأثير على الخصم. ويكون هذا التأثير بطرق سلمية. وهذه السلمية هي التي تميّز،كما سيأتي، لاحقا نسق الاحتجاج عن نسق الفتنة والانفصال.

بعد تحديدنا للحقل الدلالي، ينبغي على السميائيات في مرحلة ثانية أن تقوم بدراسة الكيفية التي تتفاعل بها هذه الخطاطة الدلالية مع العلامات والخطابات والنصوص التي لا تقتصر دائما على إظهارها كما تؤكّد بذلك التعريفات المعجمية، بل على إظهار، أحيانا، ما يتضادّ ويتعارض معها، بإدراج بعض التوترات في الحقل الدلالي للاحتجاج و المصطلحات المجاورة له بتأثير من المواقف الإيديولوجية. ويمكننا التعبير عن ذلك من خلال أمثلة تكون فيها الكلمة إلى جانب الصورة.

  • شبكات التواصل الاجتماعي بوصفها فضاء سميائيا للاحتجاج البصري

   إذا نظرنا لوسائل الإعلام من زاوية بنائية سوسيو ثقافية، فإننا ندرك، قبل كلّ شيء أنها تعدّ رابطا بين الإدراك والتواصل. واستنادا إلى رسائل التواصل الفردي، فإنها تشكل عناصر الثقافة التي يمكن العثور عليها في مفاهيم المعرفة الجماعية والانتظارات الاجتماعية والبنيات الرمزية. ومن خلال هذا التقييم، تعتبر شبكة الأنترنيت فضاء ممكنا للتواصل الفردي يمكّن الذات من الاحتجاج على بنية التّسنينات الثقافية وعلى قواعد المعرفة والمؤسسات.[10]

  وإن أحد العناصر الهامة في الأنترنيت اليوم هي شبكات التواصل الاجتماعي، وهي شبكات تتألف من:

  • البنية التحتية للمعلومات والأدوات المستخدمة في إنتاج وتوزيع محتوى له قيمة فردية ولكنه يعكس في الوقت نفسه القيم المشتركة؛
  • المحتوى الرقمي للرسائل الشخصية والأخبار والأفكار التي ستصبح منتجات ثقافية؛
  • الأشخاص والمنظمات والصناعات التي تنتج وتستهلك كل الأدوات والمحتويات.[11]  

ولا تعطي شبكات التواصل الاجتماعي الفرصة للتعبير عن الذات الفردية فحسب، بل إنها تساعد أيضا على تعزيز القيمة الثقافية للتعبير عن هذه الذات من خلال مشاركة وتفاعل باقي المستعملين لهذه الشبكات.

ومن ثم فإن الشبكة الاجتماعية هي منصة متميزة واستثنائية للتعبير عن احتجاجات فردية من خلال نشر بنيات وأنواع سنَنيَّة رمزية فردية عبر أخبار الشخصية وعبر علامات داّلة أو عبر فن يكشف عن قراءة بديلة للقوانين والمواضعات الثقافية المؤسساتية  الراسخة. ومع ذلك، يوفر الأنترنيت بنيات ومساحات تمكّن الذات من التعبير عن احتجاجات سريعة تعبيرا هجينا ومؤقتا. فعبر هذه الشبكات الاجتماعية وغيرها من المنصات التي تتقاسم المحتوى، يمكن للمستخدمين الإفراج بحرية عن المعلومات والآراء وبعثها إلى جمهور من الأصدقاء أو حتى جمهور مجهول، دون الحاجة إلى امتلاك المستعمل معرفة فكرية كبيرة تبين له كيف تشتغل وكيف يتم التواصل عبر هذه القنوات. وبالتّالي فإن التعبير عن المعارضة أو الآراء المخالفة حول تطبيقات الشبكات الاجتماعية، يقع في علاقة نسقية بين البنيات التكنولوجية والسياق الاجتماعي والثقافي والمؤسسي وبين التعابير التي أنتجها المستعمل.

    وبما أن هذه الدراسة تهدف إلى تحليل أشكال الاحتجاج البصري كما تم التعبير عنه على شبكة التواصل الاجتماعي، فإنه لا بد أن تنظر في المعايير السياقية والتكنولوجية أيضا، جنبا إلى جنب، مع الأشكال الأيقونية والبصرية مثل الرسوم التوضيحية والخطوط والأشكال الهجينة التي تنتجها علامات نصية تستند إلى مفهوم أيقوني للعلامات، مثل رموز الإيموجي التعبيرية والملغزة.[12]

   ويكشف غيرتز أن التحليل الثقافي يقوم على تراتبية طبقية من بنيات دالة: رعشات وغمزات وتعبيرات وجه وأنواع محاكاة وتدريبات، على أساسها يتم إنتاج التحليل وفهمه وتأويله، وبدونها لا يوجد تحليل بصرف النظر عن حركة الإنسان بعينيه أو وجهه.[13] وتعدّ الصور الفوتوغرافية علامات بصرية هامة بحكم تداولها أكثر على شبكة الأنترنيت. مع التطور السريع للتكنولوجيات الرقمية وانتشار الأجهزة الذكية فقد سهّلت استخدام التصوير الفوتوغرافي ممّا تتيح أمام تطبيقات الويب الاجتماعية إمكانية تحميل الصور وإدارتها ونشرتها بسهولة على الويب. فالتحميل المباشر لهذه الصور الفوتوغرافية من الحياة اليومية الشخصية هو سمة مشتركة تنفذ من مواقع الشبكات الاجتماعية مثل الفايس بوك وتويتر وفلايكير وإنستاغرام والواتس آب…

   يقول السميائي الإيطالي ماسيمو ليوني: قلّما تمرّ لحظة دون أن نلقي نظرة على حساباتنا في الفايس بوك سواء عبر حواسيبنا أو هواتفنا أو أجهزتنا الذكية. إن هذه النظرة لا يمكن أن تمرّ دون أن تقع أبصارنا على صور، ثابتة أو متحركة، تمثّل النساء والرجال وقد خرجوا للشوارع والساحات الكبرى تاركين كل أعمالهم اليومية المرتبطة بمعيشهم وقوتهم اليومي وهم يصرخون بأعلى صوتهم قائلين: “لا”

لتكريس طاقتهم السميائية المعبّرة عن سيرورة الاحتجاج. إنهم يضطرون لفعل هذا السلوك تعبيرا عن الرفض والاستنكار ضد أفعالٍ أو سياسات أو أوضاع معينةٍ إما بالقول أو بالفعل. ويمكنُ أن يتخذ الاحتجاجُ أشكالاً مختلفة، فردية أو جماعية.  وتطورت أشكال الاحتجاج ونمت على امتداد العمق الحضاري الإنساني لتتخذ شكلاً يتناسبُ مع ما تسمحُ به القوانينُ النافذة والظروف المحيطةُ. إن ما يهمّ الباحث السميائي أكثر هو، الإبداع الخلاّق الذي لا ينضب لهذه السيرورة.[14] إنها لغة تنطوي على تسنينات وعلى مقامات كما تتأقلم مع أغراض وغايات ولكنها دائما في تجدّد وإبداع مستمرّ. وصار الإبداع في الاحتجاج رديفاً للعصر الحالي، فتنوعت وسائلُ الاحتجاج وتعددت الطرق؛ خاصة في عصرٍ صار التواصل فيه بين الناس على امتداد الأرض وسعتها سهلا وآنياً عبر وسائط وأجهزة ذكية متعددة. وباستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد دعواتُ الاحتجاج محدودةً بين جماعاتٍ وأفرادٍ في رقعة جغرافية وسكانية صغيرة بل صار بالإمكان إيصالُ دعوات الاحتجاج لتشمل بلداناً بأكملها.

  ويبقى الاحتجاج والاستنكار طبيعة بشرية تعبر عن نفسها بطرق متعددة تتصاعدُ حدّتها كلّما طال التجاهل. وكلّما ضيقت السلطات، في أي زمانٍ، هامش حرية الاحتجاج طوّرت الشعوبُ وسائلَ احتجاجها فاستخدمت الشعارات بلغات متعدد ثمّ الشعر والنثر والغناء والأهازيج والرسوم ووظفت النكتةَ تعبيراً عن نقدها واستنكارها للسلطات. 

  • الاحتجاج وسميائيات التغيير: احتجاجات الريف بالمغرب أنموذجا.

  بدأت قصة احتجاجات الريف في 28 أكتوبر 2017 بعد مقتل بائع السمك محسن فكري عندما حاول استرجاع أسماكه التي صودرت منه بحجة عدم حصوله على ترخيص بالاصطياد. تعود هذه الواقعة عندما كانت شاحنة نقل أزبال بصدد إتلاف كمية من الأسماك الممنوعة من الصيد وفق ما نقله بلاغ عن السلطات المحلية، وهي كمية مصادرة من بعض التجار الذين اشتروها من ميناء المدينة. فقد احتج الشاب التاجر محسن فكري على المصادرة ودخل إلى منطقة ضغط الأزبال لمحاولة دفع السلطات الأمنية إلى التراجع عن قرار الإتلاف، غير أن آلية الضغط جرى تشغيلها، فجرّت محسن إلى الداخل ليلقى مصرعه.

قُتل محسن فكري طحنا وقد سُحقت عظامه في حاوية أزبال وهي الصورة التي خلّفت تذمّرا وذهولا كبيرين وسط كلّ المغاربة الذين تداولوا الهاشتاغ # طحن مو.(اِطحن أمّه) رفقة صورة يظهر فيها الراحل داخل الشاحنة وقد فارق الحياة. يضاف لهذا الهاشتاغ هاشتاغ آخر هو #شهيد_الحكرة وكذا هاشتاغ  #كلنا_محسن_فكري، غير أن هاشتاغ #طحن_مو كان هو الأكثر تداولا وفق إحصائيات موقع hashtagify. ويعدّ هاشتاغ # طحن مو.(اِطحن أمّه) مؤوِّلا بالمعنى البورسي للكلمة؛ فهو تكثيف دلالي لكل الممارسات الدالّة على الحقد والكراهية. لذلك لا يمكننا تصور معنى لفعل طحن خارج مدار السيرورة الدلالية في أبعادها التعددية. بمعنى آخر، فإدراك المعنى وإدراك شروط إنتاجه وأشكال تصريفه داخل هذا الكون السميائي المتعلّق بفعل الطّحن، يمرّ عبر الممارسة الدلالية سواء في أبعادها اللسانية أو الرمزية. لذلك فإن التأويلات التي تعطى لهذا الفعل أو لهذه الممارسة وكل الأشكال والتعبيرات التي تجاورها وتنخرط في سمياء كونها، لا تنفصل عن التعدد والتنويع الدلاليين. لهذا فإن مقولة التعدد الدلالي تفترض نواة دلالية ثابتة وقارة، وهو ما يحيل على المعنى في أبعاده المباشرة والحرفية. لأن الضامن لمشروعية التأويل ومصداقيته، هو هذا الحدّ الأدنى المعنوي باعتباره القاسم المشترك الذي تتقاطع فيه كل الدلالات. لأن الجدل الدائر حول المعنى وتعدد الدلالات وحرية التأويل وطبيعة النص، وإجمالا حول طبيعة السميوزيس ينهض على هذا الاختيار الراسخ والمتمثل في الدفاع عن المعنى الحرفي. فهو فعل يتضمن من جهة أولى، القدرة على إنتاج الدلالة استنادا إلى معطيات مباشرة هي ما يشكل الوجود الأصلي للفعل في أبعاده الحرفية، وهي مرادفات: جَرَشَ – حَطَّمَ – دَقَّ – سَحَقَ – فَتَّتَ – كَسَّرَ  هَرَسَ – هَشَّمَ… كما يتضمن من جهة ثانية، لحظات إضافية تنزاح عن التعيين لتعانق سيرورة التأويل بوصفها متوالية ضمنية داخل أي سيرورة لإنتاج الدلالة وتداولها. فالطحن هنا، علامة سميائية تتجاوز كل استعمال حرفي إنه طحن يقذف بالعلامة من موقعها التّعييني المباشر، إلى عالم جديد من الدلالات؛ وهذه الدلالات ليست معطاة بطريقة مباشرة من خلال ما يبدو من ظاهر العلامة، بل تشير إلى تجربة ضمنية، فـ “العلامة تحتوي أو تشير إلى مجمل مكوناتها الأكثر إيغالا في القدم”.

  إن الطّحن هنا، ليس هو طحن القواميس ولا طحن اللغة، بل طحن رمزي وقيَمي؛ بما يحمله فعل طحن من دلالات إضافية تعطيه غناه التأويلي، سواء كانت دلالات نفسية معبّرة عن الحقد والكراهية الدفينين في نفسية الطاحن بعلاقته بالمطحون أو دلالات تاريخية تكشف فظاعة ما تعرض إليه المطحون من جرائم ضدّ الإنسانية وإبادة شاملة على يد المستعمر الإسباني بأسلحته الكيماوية، وهي جرائم لا زالت آثارها إلى يومنا هذا، موشومة في ذاكرته. أو دلالات اجتماعية تكشف عن واقع التهميش والظلم الاجتماعي والذي يعبر عنه في صيغته المغربية بالإحساس بـ «الحُكرة». ولا يوجد المعنى بعيدًا عن حركة التاريخ؛ يمارس المعنى حركته في الكل؛ بطريقة موسوعية – أي في العلاقة مع عوالم اجتماعية وثقافية. ولا يتم تحديد الوحدات الثقافية من الوجهة التاريخية والثقافية والاجتماعية وكفى، ولكن يتم ربطها وتفعيلها ووضعها في خضم اللعب في السيرورات السميائية متكئة على صلتها بالفرد وبثقافته.

إن اللغة ليست ببساطة مسألة علاقات بين الدّال والمدلول ونسق من العلاقات المسنّنة، وليست الهُوية السميائية ذات قيمة متغايرة (بين الشيء وضدّه) بهذا التبسيط، ولكن اللغة أيضًا – ودائمًا – مسألة لها علاقة بالاستنباط والتفسير والاستدلال: فكل علامة تنفتح على لعبة تأويلية ويمكن، (يعني: في سياقات معينة، كل علامة يمكن أن تعني شيئًا مختلفًا عن معناها «المعتاد»). إن الظروف السياقية والتطبيق التأويلي مكونان أساسيان من مكونات الدلالة. لا توجد سميائيات قبل هذين البعدين أو بعيدًا عنهما.  لذلك فـ «اِطحن أمّه» هي ملفوظ لساني له شحنات ثقافية وبلغة يوري لوتمان نسق منمذج ثانوي قادر على برمجة سلوك ثقافي دالّ على الحقد والكراهية. اِطحن أمّه: للتخلّص من احتجاجه ومن مقاومته ورفضه لواقع الحال. وربّما تزداد المسألة أكثر تعقيدا إذا أضفنا لفعل طحن الوحدة المعجمية («مّو» بالعامية المغربية) أمّه. إن هذا الاستعمال سيجعلنا نكتشف أن المطحون حقيقة هو محسن فكري لكن رمزا وهذا هو الأصل هو أمّه، فنكون بلاغيا أمام تعبير بضدّ مقتضى الحال. «الأم» هنا وفي لا وعي اللغة هي المستهدفة، بما لها من دلالات رمزية غاية في التنوع إنها كون سميائي ثقافي متعدد فـ:

  • الأمّ مدرسة،
  • الأمّ أرض،
  • اللغة الأمّ،
  • الوطن الأمّ،
  • الحضارة أمّي
  • الأمّ أصل الشيء،
  • الأمّ عيد.

  فمن حليب هذا الأمّ رضع هذا المطحون ثقافة الكرامة والرفض لكلّ الممارسات النافية للقيم الإنسانية ومنها رضع الإباء ورفض العبودية ومنها تعلّم التعدّد والاختلاف والتسامح. فالأم لغة وتاريخ وهوية وحضارة وعيد… وأخشى ما أخشاه أن يكون هذا الكون السميائي هو المراد بالطّحن!!!

  • 3-2       «طحن مّو» في شبكات التواصل الاجتماعي

    قد تحسن الإشارة باختصار هنا أيضًا إلى أن معالجة لوتمان لقضية نصية الثقافة تبين كيف أن حياتنا مليئة بالنصوص والأبنية النصية، ومنها – على سبيل المثال– الأنترنيت، الذي يمكن اعتباره نموذجًا للثقافة التي تنقل أبنيتها بنوع من التنظيم؛ وبذا يمكن اعتبار الأنترنيت نصّا واصفا عالمي للثقافة، أو واحد من البورتريهات الدينامية التي ترسمها الثقافة لنفسها. وتفاعل المستخدم النشط مع النص في شبكات التواصل الاجتماعي، يجعله بناءً ديناميًا ويوحي ببناء معقد ذي أبعاد متعددة، وهو في الوقت نفسه أكثر مرونة وفاعلية توصيلية وإبلاغية والتفاعل المذكور يبين أن النص الرقمي نص دينامي وأنه الأساس والجوهر للأنترنيت، وبالطريقة نفسها فإن نصية التفاعل الاجتماعي والتي قد تكون ضمنية أو غير واضحة المعالم في «الحياة الحقيقية» تصبح في الأنترنيت أكثر وضوحًا، ومؤكدة بوجه خاص، في بعض الأحيان. وهي ظاهرة تتجلى في شبكات التواصل الاجتماعي بصفة خاصة؛ حيث تتيح تلك الشبكات أشكالا مختلفة من التواصل وتقديم الذات كما تقدم بعض الخصائص التي لا توجد في الحياة الحقيقية[15]. وبمعنى آخر، إن الإنسان بطبعه، ومن منظور سميائي، هو حرّ في تحويل أي مظهر من مظاهر الواقع إلى علامة على شيء آخر، أو التعبير عنه بواسطة العلامات، في إطار سيرورة سميائية لا نهاية لها،  وهذا ما لاحظناه من خلال تفاعل نشطاء ومرتادي شبكات التواصل الاجتماعي مع حدث الطحن: فهناك من عبر عنه لفظا وهناك من عبّر عنه صورة وهناك من زاوج بين سميائيات اللفظ والصورة وهناك من عبّر عنه تشكيلا ونحتا وهناك من تغنّى به أغاني الرّاب للدلالة على هول الحدث ثمّ هناك من عبّر عنه حقيقة وهناك من عبّر عنه مجازا وهناك من عبّر عنه سخرية وهو في هذا يوجّه نقدا ويحمّل مسؤولية.

  وهناك من عبّر بضد هذه الممارسة في إطار الثوابت المنصوص عليها في دستور الوطن وخاصة في الفصل 22 منه القائل:

  • لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة.
  • لا يجوز لأحد أن يعامل الغير، تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة أو حاطّة بالكرامة الإنسانية.
  • ممارسة التعذيب بكافة أشكاله ومن قبل أي أحد جريمة يعاقب عليها القانون.

  وتعدّ كل هذه المظاهر– باعتبارها موضوعات سميائية – عناصر مشكِّلة للكون السميائي الدّال على الاحتجاج، سواء على مستوى التعبير أو المحتوى. إنها تتضمّن العلامات والنصوص والصور والأشياء والممارسات والاستراتيجيات؛ إنها القيم والمواقف والأدوار الاجتماعية والمبادئ الموجِّهة التي تجلب الانسجام والاتساق لكل المستويات الأخرى داخل الكون السميائي في أبعاده المحايثة أو المتجلية. إنها تتجلى في هذا الكون انطلاقا من مواقف وتعابير رمزية قادرة على التأثير في أحاسيسنا وعلى وضعيات تلفظنا واختياراتنا القيمية. إنها في النهاية، تشكّلات سميائية واسعة ومتسقة ومنسجمة تساعدنا في تحديد الهوية الفردية والجماعية التي ينسبها الفاعلون لأنفسهم داخل الكون السميائي.[16] فالإنسان بطبعه، ومن منظور سميائي، قادر على بلورة أشكال سميائية جديدة للتعبير عن ممارساته وإظهار كافة تحققاتها بواسطة العلامات، في إطار سيرورة سميائية لا نهاية لها، وحدها العادات أو الأنساق الروتينية الموسومة بالثبات هي القادرة على إحداث شلل داخل هذه السيرورة. وإن السميائيات، في نهاية المطاف، ليست سوى إعادة صياغة ما أشار إليه أمبرتو إيكو، في أبحاثه السميائية: إنها التخصص المعرفي الذي يدرُس، مبدئيا، كلّ ما يمكن استخدامه لأجل الكذب، لأن كل علامة تنفتح على لعبة تأويلية ويمكن «استخدامها لكي تكذب»، كما يمكنها أن تعني شيئا مختلفا عن معناها الأصلي والمعتاد. ففي الوقت الذي لا توجد أمامنا فرصة الاختيار بين الصدق والكذب أو بين الواقع وأحد بدائله فلا مكان للسميائيات.[17]

      إن الفرضية العامة لهذه الدراسة ترتبط بالتعريف نفسه للسميائيات. فمن جهة، إذا أعدنا صياغة ما أشار إليه أمبرتو إيكو، يمكننا القول: إن السميائيات تدرس كل ما يمكن أن يستعمل أو يساعدنا على الاحتجاج. فلغة الاحتجاج المتمثلة في الطرق التي يبني بها الأفراد صراخهم المعبّر عن المعاناة والألم ونفاد الصبر والسخط ضدّ الوضع القائم، هي في الواقع، لغة لا حدود لها. كل شيء يمكن ترتيبه للدلالة على هذا الاستياء وجها لوجه مع هذا الواقع البئيس في أشد مفارقاته وتناقضاته؛ حيث التعابير اللفظية وملامح الوجه والإيماءات الجسدية وحركات الأفراد والجماهير والعلاقة مع الفضاء والأصوات والألوان والأشكال وحتى الصمت. كل هذه الأمور يمكن استخدامها للاحتجاج. وبالتالي فإن أي شيء يمكن أن يصبح هدفا أو موضوعا لسميائيات الاحتجاج. كما أنّ عدم وجود أيّ شيء، في كثير من الحالات (عدم وجود الكلمات والإيماءات والحركات والألوان والأشكال…) من شأنه أن يصبح خطابات احتجاج. إنها مفارقات الصمت المطبق.[18]  

    ومن جهة أخرى، يمكننا التعبير عن الاحتجاج في بيان عامّ أو تقرير ذا طبيعة فلسفية. وليس بإمكان الكلّ أن يصير علامة احتجاجية فقط، لكن القدرة على الاحتجاج صارت خاصية أو ملمحا مميزا للإنسان ومن طبيعته. وهكذا، فالرجل أو المرأة اللّذان يحتجّان، فإنهما لا يقومان بذلك إلاّ لأنهما يتصوران واقعا محتملا يعدّ بديلا عن هذا الذي يعيشونه ويتجرّعون قساوته وحرمانه. إنهما يمشيان معاً ويرفعان الشعارات معاً ويكتبان اللاّفتات معاً، لأنهما قادران على أن يحلما بواقع مغاير تماما لما يعيشانه، وأن علامات احتجاجهما ليست سوى وسيلة سميائية يأملان من خلالها تحويل الحلم الآني إلى مستقبل حقيقي والواقع الحالي إلى كابوس مضى. وعلى أية حال، فليست هناك قدرة على الاحتجاج، عندما نسلّم بقَدَرية الواقع ونتقبّله جبريا أو نخضع لما يأمرنا به.[19]  فعندما يصبح الاستبداد قانونا، يصبح الاحتجاج أمرا واجبا.

  • احتجاجات الحسيمة أنا أحتج، إذن أنا موجود

     لقد عرف مقتل محسن فكري تضامنا كبيرا في جلّ المدن المغربية حيث واكبت السلطات كل الاحتجاجات بما يضمن السلمية غير أن مدينة الحسيمة لوحدها بقيت تنادي بالإصلاح الذي انبثق من واقعة مقتل محسن فكري وكانت لا تتعدى المئات قبل أن يرتفع العدد بعد صدور بيان الأحزاب المشكلة للحكومة الجديدة والتي اتهمت المحتجين بالانفصاليين والذي كان من جهة، بمثابة الزّر الذي غيّر مجرى الاحتجاجات من طبيعية لمنزلقة، ثم محاولة استمرار النظام السياسي في سحب الشرعية السياسية والاجتماعية من هذا الحراك الاحتجاجي وربطه بأشكال التمرّد والرغبة في زعزعة أمن الوطن واستقراره. بدأ هذا عندما برزت بعض الشخصيات الكاريزمية على رأس قيادة الاحتجاجات في الريف، يتعلّق الأمر بشخصية «ناصر الزفزافي»  و«نوال بنعيسى» وشخصيات قيادية أخرى.

احتجاج الريف إذن، هو حركة قوية تحمل مطالب ذات خصوصيات مجالية لكنها في العمق مطالب عامة تعتبر المدخل الرئيس لبناء الدولة الحديثة عبر أبواب ثلاثة:

  • باب الحرية
  • باب الكرامة
  • ·       باب العدالة

 ويمكننا القول: إن هذا السلوك الاحتجاجي هو فعلٌ مبني على رغبة الإنسان في تغيير واقعه عبر رفضه واستنكاره للظرف الاجتماعي أو السياسي وكل أشكال الاستبداد. وعندما لا يُسمعُ صوته من قبل أصحاب القرار يشعرُ بالإهانةِ وعدم القيمة، فيندفع لإثبات العكس من خلال احتجاجات في رسائل مسنّنة أو عبر دعامات تواصلية وتعبيرية أهمها: اللاّفتات والملصقات والأقمصة والمناطيد والشعارات والكتابة على الجدران…وتتضمّن كل هذه الدعامات رسائل مفادها: «أنا موجود فاسمعوني» أو «أنا أحتج إذن أنا موجود»، وهي صيغة غاية في التفلسف والتشبّع بقيم الوعي، خاصة، إذا كان الاحتجاج لا يراد به الانضمام الأرعن إلى أسلوب التمرّد. فالجماهير التي تردّد الشعارات دون أن تفهم حقّا أصلها ولا المقصود من ورائها أو التي تقول «لا» دون التفكير في بناء «نعم» أو التي ترفض الواقع دون أن تقدر على الحلم ببدائل ممكنة له، فإن هذه الجماهير لا يمكنها أن تكون سوى أسيرة للروتينية والمعتاد ولحركة آلية مألوفة تجعلنا نفقد الإحساس بالإبداع الذي يميّز الإنسان في كينونته. ولا ينبغي أن نفهم من عبارة أنا أحتج إذن إنا موجود، أن الذين لا يحتجون يفتقدون لخاصيتهم الإنسانية أو هم مجرّد آلات وحجارة لا أحلام لهم ولا انفتاح لهم على عوالم التغيير. فهناك فترات تظهر الهزّات الحقيقية التي يصاب فيها الإنسان في كرامته ونفاذ صبره ممّا يترجم عمق معاناته أو معاناة رفاقه أو أسرته أو مجتمعه. إن أولئك الذين لا يشتكون ليسوا دائما قادرين على تصور بديل حقيقي لواقع رهيب كان أشدّ قسوة عليهم وزاد من معاناتهم. [20] إن الإنسان الذي لا يملك قدرة على الاحتجاج هو مجرّد آلة أو حجرة أو جماد، الثبات والسكون من طبيعته؛ ولا يصحّ أن نطلق عليه صفة إنساني. فحتى الطبيعة تميل في بعض الأحيان إلى الثورة. ويبدو أن العديد من أنواع الكائنات الحية قادرة على الاحتجاج. ولذلك، فإن الرجل أو المرأة اللذان لا يستطيعان الاحتجاج أو حتى لا يمكنهما تصور الاحتجاج، يمكنهما أن يكونا في مرتبة أقلّ من الحيوان والنبات والطبيعة. وفي أعقاب هذا القيد الذي فرضته عليهما الثقافة فإنهما يتخلّيان عن طبيعتهما الإنسانية. هذه الطبيعة الحرة القادرة على إنتاج تمثلات بديلة ولا متناهية للواقع، والحلم بكل البدائل المتاحة لتغيير هذا الواقع أو الكفاح لتحقيق بعضها على الأقل.[21]

   يشكل الاحتجاج إذن، عالما أو بديلا ممكنا أو هو نتيجة لإسقاط رمزي. ولكن هناك قوة أخرى تتسلّل إلى سميائيات الاحتجاج، التي يمكن أن تكون أيضا أحد العناصر المكونة للغة هذه السيرورة: يشيّد الاحتجاج خطاباته عبر بطولات فردية غالبا ما تقترن بحركات إيمائية بطولية معبّرة عن المشهد. وتعدّ لغة الاحتجاج الشرارة الأولى نحو حرية الأفراد، غير أنها أيضا نار أو هشيم ينتشر بفضل الطبيعة الاجتماعية للمعنى. فالاحتجاج في أمسّ الحاجة لكل شخص سواء كان زعيما أو أتباعا. ولا شيء في مشهدنا اليومي ما يدلّ عن الاحتجاج بصورة أكثر حماسة، من قدرة العلامات على السفر من معاناة لأخرى ومن وسط لآخر ومن ثقافة لأخرى بشرط أن توحد الدينامية الأنثربولوجية العميقة، الإنسانية لمواجهة كلّ أشكال الظلم والاستبداد.[22]

    إن رفع علم مغاير لعلم الوطن مثلا أو إحراق جواز سفر هو علامة احتجاجية عنيفة تقع على وجه التحديد نظرا لعدم وجود بديل واختيار أمام المحتجين. فالعلم الوطني تجسيد لمفهوم الدولة ويرمز إلى الإطار الجامع لكل المواطنين الذين يحملون جنسية هذه الدولة وينتمون إلى أرضها وإلى إطارها الجغرافي والسياسي. ويعدّ حمل العلم رمزا للارتباط بالوطن وللتعبير عن التشبث بوحدته واستقراره، وعن الرغبة في الإسهام في تطويره. لهذا لا بدّ من التفكير في أشكال نضالية أخرى دون المساس أو تدمير الرموز العزيزة على الشّعب. فحيثما لا يوجد بديل لهذا الاحتمال، لا توجد علامات أيضا ولا تكون هناك أي لغة، ممّا ينذر، في النهاية، بتوقف وزوال كل معاني الإنسانية عن الوجود.

    إن المشهد الأكثر استثنائية والذي يمكن للمحتجين تقديمه هو عندما نشاهد هذه النيران تغذّي نفسها، فتنبثق منها الشرارة شيئا فشيئا، فتنتشر وتندلع وتتحول إلى نار حارقة يشتدّ لهيبها وأوارها، فيصعب إخماد سعيرها، لتلتهم كل شيء. إنها نار الظلم والاعتداء والطغيان والاستبداد…فالاحتجاج السلمي يبدأ قولاً، شعراً ونثراً ونكتةً ثم صراخاً، لينتقل إلى مرحلة الفعل من مظاهرات واعتصامات ومقاطعة اقتصادية ثم إلى فعل احتجاج منظمٍ متكرر، ليصبح مقاومة مدنية. فيتصاعد إلى احتجاجٍ عنيف. و إن لم يجد استجابة فالنتيجةِ حربٌ وانقساماتٌ تهدد كيان البلد ووحدته.

  • الاحتجاجات وسميائيات الصراع بين الهامش والمركز

    حسب يوري لوتمان، فإنه يمكن للمركز (نقصد بالمركز هنا الدولة وأجهزتها) أن يمارس نفوذا وسلطة مطلقة على المكونات الثقافية التي تعنيه وتمسّه مباشرة، بمنع كل تغيير يساهم في تطوير الثقافة، ممّا يجعل هذه الأخيرة تعرف فشلا وظيفيا يقودها، في فترة ما، نحو الاختفاء لصالح ثقافات أخرى مغايرة. وهذا ما يسعى إليه من خلال تذويب ثقافة الاحتجاج باعتبارها نتاج علاقات اجتماعية وتجلّ من تجلياتها، رهانها هو إعادة التوازن المختلّ إلى مجراه الطبيعي داخل المجتمع. وهو صراع يكشف عن البنية التناقضية بين مختلف الطبقات الاجتماعية؛ أي بين من ينتج الثروة وبين من يستفيد منها ويحتكر قيمتها ويستغلّها ولا يفكّر سوى في الحفاظ على مصالحه المادية والسياسية.

   قيام الاحتجاجات من لذن قوى الهامش هدفه إذن، الإطاحة بهذه الوضعية التاريخية التي باتت تضر بغالبية الناس في الريف والمغرب عموما وبالتالي تأسيس أوضاع مغايرة وبشروط جديدة تستند على محاربة الفساد وتفكيك بنيات الاستبداد وأنساقه ليتم تسهيل الانتقال من مجتمع الرعايا إلى مجتمع المواطنة الحقة. وبناء على ثنائية المركز والهامش هذه وما تجذبه من تناقضات بين القوى الطاردة للمركز والرافضة له وبين القوى الجاذبة للمركز التي تعمل في اتجاه الحفاظ واحترام مصالحها وبنياتها الثقافية تتشكّل أرضية الصراع. لأن المركز حسب لوتمان هو المكان الذي يصف فيه الكون السميائي ذاته ويتمركز حولها، وتعدّ مرحلة الوصف الذاتي هذه، ردّ فعل ضروري ضدّا على كل تهديد يمكن أن يمسّ جوهر الكون السميائي. فالنسق في ظل هذا الوضع يمكن أن يفقد وحدته وهويته ويصير عرضة للتفكّك.[23]

    إن هذا الوصف الذاتي يظهر صرامة وتحفظا أو ممانعة ضدّ كل تغيير يهدد بنية كونه السميائي. ولإزالة هذا الخطر، تتجه القوة الجاذبة للمركز، نحو مركز الكون السميائي لتذويب وإزالة كل المخاطر المحدقة بهذا الكون. وبالمقابل، يتوفر الهامش داخل هذا الكون السميائي، على حركية كبيرة في مقابل ثبات كبير تعرفه النواة. إن القوة النابذة للمركز هي من يسهر على تأمين هذه الحركية الثقافية. وإن العناصر الثقافية التي نقلتها هذه القوة ستجد نفسها مجددا في اتصال دائم مع مؤثرات ثقافية مختلفة انبثقت أو انحدرت من ثقافات أخرى مغايرة. بهذه الطريقة تتمكن العناصر الثقافية من التحول وتساهم في الحين بإحداث تغييرات داخل الكون السميائي.

بمعنى آخر إن ما يقوم به الهامش من احتجاجات دفاعا عن مطالبه الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية هو في واقع الأمر شيء بسيط، ولا يشكّل خطرا على المركز، بل الخطر بالنسبة إليه هو في البعد الثقافي والرمزي لهذه المطالب لأنها في نظره هي مسّ بأمن الدولة وتهديد لاستقرارها وتشكيك في شرعية وجودها، يفسّر هذا منطق النظام التقليدي القائل: إن متزعمي الاحتجاجات هم من عامة الناس الطائشين والمتمردين والناقمين على الوضع الاجتماعي والمُعادينَ لأجهزة الدولة من أحزاب ونقابات وجمعيات مجتمع مدني، لكنهم يتمتعون بمصداقية جماهيرية محلية ووطنية على الأقلّ، وهي مصداقية فاقت كل التصورات ينضاف لهذا ذاكرة المنطقة التاريخية المجروحة التي لا زالت تعاني من صدماتها.

       ففي حالة الكون السميائي الفاعل والوظيفي الذي يخضع لتجاذب وتفاعل كلا القوتين النابذة للمركز والجاذبة للمركز، فإن الحدّ في هذا الكون يشكّل الموضع الأكثر حركية والأكثر لفتا للانتباه والاهتمام لا سيما على مستوى تحليل وتدبّر كل حركات وقوى الكون السميائي. إن الحدّ هو مكان ولادة لغات جديدة، لغات الحوار ولغة الحرية والكرامة والعدالة. وإن هيمنة قوة على أخرى يكون سببا حقيقيا في تدمير الكون السميائي.

   إن هذا الاحتجاج هو نتيجة للتفكير الشّمولي (التوتاليتارية) للنظام السياسي في علاقته مع الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية وخصخصة الفضاء العام والتضييق على الممارسات الجمعوية المستقلة وكتم الأصوات الإعلامية والأكاديمية والفنية والدينية… التي تأخذ مسافة كافية مع سلطة النظام أو دعونا نقول على نحو أدقّ مع تسلّط النظام وبيروقراطيته.

  إن المهمة السميائية للاحتجاج تتبدّى أيضا في فهم، المرور من إمكانية الاحتجاج إلى استحالته ومن قدرة التعبير عن الحلم إلى إجهاضه وتشويه صورته. وتتبدّى أيضا في معرفة مكامن وكنه لغة الاحتجاج ومفاتيحها التي تسعى الأنظمة الديكتاتورية إلى إقبارها بقمع ووحشية لتدمير كل ثورة محتملة. ورغم ذلك، تواصل سميائيات الاحتجاج، وبشكل متماثل، أيضا وهج الفرص والإمكانات والممارسات الاحتجاجية الجديدة. فحتى عندما يكون القمع في أوجّه وشرارة الخيال قد احترقت وصارت رمادا، ينبعث لهيب جديد، وينبعث فينق جديد، غالبا ما يعبّر عن نفسه في الشعر وفي أشكال وتعابير فنية أخرى يخلقها المجتمع للتعبير عن السخط والرغبة في تحقيق الحلم. إن الاحتجاج في عمقه يعني الإرادة في تملك المصير وبوابة الانتقال نحو واقع بديل، رهانه ترسيخ ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان في أبعادها الكونية وهذا مؤشّر دالّ أو سيرورة تسعى لتفكيك ثقافة الاستبداد ومنظومته القيمية لأنها ثقافة تشيّد فلسفتها على المقاربة الأمنية وتقايض بها كل الاحتجاجات وهي مقاربة دائما ما تربط الاحتجاج بالفتنة أو الفوضى، لذلك فرفع الظلم والقهر وكل طبائع الاستبداد ورفضه عبر شعارات أو بيانات أو كتابات أخرى معبّرة أو صور أو ملصقات… أصبح دعوة صريحة إلى الفتنة، بما لهذا المفهوم من دلالات وشحنات دينية مؤدلجة وتاريخية تعني عدم الطاعة والخروج عن السلطان وما يرافق ذلك من ملابسات. ومع أن أصل الفتنة في المعجم العربي هو: الابتلاء والاختبار والمحنة، إلاّ أنه تطور إلى معانٍ أخرى: كالقتل والإثم والكفر…(ومن تعدّى حدود السلطة فقد كفر). وقد اكتسب هذا المفهوم إيحاءات سياسية من بينها حسب الغزالي: أن الفتنة تعني استغلال السلطة لمصادرة الحقّ ومطاردة أهله.[24] وإن التوسّع الدلالي لهذا المفهوم جعله سلاحا قويا في يد الأنظمة الحاكمة ليكون رافدا أساسيا لفكر الطاعة. ولأن الرعية لا سلطان لها على نفسها، بل هي مِلك لمن يرعاها، فلا حقوق لها وواجبها الطاعة والولاء. إذ عدّت طاعة السلطة عنصرا أساسيا للحيلولة دون حدوث الفتن. وباسم هذه النسق يتم تدبير الحكم ومقاومة كل محاولة احتجاجية تستهدف التغيير. ومن يسعى إلى تطوير الواقع أو إصلاحه فهو متآمر على البلد ومسيء لصورته في العالم. وهذا هو الخطاب السياسي الذي يتم ترويجه من قبل السلطة الحاكمة المستفيدة من الريع ومن يدور في كونها السميائي؛ سياسيون أو إعلاميون أو مثقفون أو رجال دين… الذين يسعون لتبرير هذا النسق عبر تسفيه الاحتجاجات الشعبية وإضفاء الشرعية على النظام القائم. 

  إن السلطة هنا، في قمعها للاحتجاجات، تمارس أفعالها المطلقة المقترنة بالإلزام، وهذا هو وجهها المباشر، الذي يؤسس علاقته بالأشياء على «الاحتواء والنفي»؛ الاحتواء في اللحظة التي تخضع فيها الأشياء لمنطق السلطة المتعالي، والنفي حالما تشرع في شق مسار مواز، تنشأ عنه قوة موازِنة، ومنازِعة للسلطة في احتيازاتها وامتيازاتها. يقتضي ذلك أن السلطة تنزع دائما نحو «توسيل» جميع القيم الممكنة لتبرير طموحها، وتوسيع مضمونها الاستحواذي، الذي يجعلها شاهدا على وجود الظواهر، وكفيلا بمصائرها، ورقيبا على تحولاتها. وأكثر ما تتوسل به السلطة في مجرى هذه الصلات دعوى «النظام»، وعليها تبني خطابها المشرع «للمؤسسة» في بعدها الواحد، والمعتد “بالحقيقة» في مفهومها «الامتلاكي لا التقاسمي.» وعليه فقد صح أن للسلطة وجهين متلازمين:

  • أحدهما «خطاب» يتخذ وضع «السرّ اللطيف»، تجري به السلطة في كل مفاصل المؤسسة مبدأً أو طريقةً أو مقاصدَ.
  • والوجه الثاني: «فعل» قهري يتصور كل اختلاف عن تعاليم السلطة «مروقا أو حماسا أو شغبا أو فتنة أو جموحا… » يقتضي المبادرة إلى الكبح، أو التفضل بالصفح؛ حفاظا على «أسطورة النظام»، الضامنة لمكاسب المهيمن الغالب، والمديمة لمصالحه المتواردة.[25]

   الوجهان معا يجتمعان عند ميشيلفوكو على نحو ما يسميه التكنولوجيا السياسية للجسد، وبهذا المفهوم يفسر فوكو المعايير التي تقيس بها السلطة درجة الصلاحية والنّجاعة في أداءات الأفراد المطالَبين بالجمع بين الإنتاج والخضوع في الآن نفسه؛ مستعينة بآلة القهر التي تظفر بها عن طريق مواجهة مادية عنيفة بينها وبين القوى المناقضة والمحتجة، أو عن طريق وسائل إيديولوجية خفية، لا تتخذ مظهرا عنيفا، بل تبدو محسوبة، ومنتظمة على نحو تقني لا شأن له بسلاح ولا برعب.[26] فإذا كان من شأن السلطة أن تُخْضِع، وتقهر، وترهن قوة الفرد بمنطق تقني مرسوم لا يقبل التجاوز؛ فإن من شأن الاحتجاجات وما يصاحبها من خطابات لفظية وبصرية وإيمائية أن تحرر، وترسل طاقات الفرد، وتدفعه إلى الشك في نوايا السلطة، ونقد خطابها، وإفشال رهاناتها. والحديث في هذا السياق عن الاحتجاجات بوصفها حاجة وجودية تتعين بالحرية، وتتقوّم بالبحث الممتد عن بدائل محتملة.

  •  سميائيات الاحتجاج والبحث عن لغة مشتركة للحوار  

إن الحوار الفعلي حسب لوتمان هو ذاك الذي يشيّد آفاقه بناء على الاختلافات السميائية، فهي التي تمنحه شرعية في الوجود والاستمرارية. أمّا حين يكون الاختلاف مطلقا يسير في اتجاه إقصاء المشاركين بعضهم لبعضهم الآخر، فإن الحوار يصبح ضربا من المستحيل وهو ما يحذّرنا لوتمان الوقوع فيه. لذلك، فهو يلحّ على:

  •  الانخراط الإيجابي والمتبادل للفاعلين وللمشاركين في التواصل وقدرتهما على تجاوز الحواجز والاختلافات السميائية الظاهرة،
  • الوضعية الحوارية تسبق أدوات السميوزيس في إطار البحث عن لغة مشتركة.

وبحثا عن هذه اللغة المشتركة يضرب يوري لوتمان مثالا بين الأمّ ورضيعها. يقول: إن الذي درس الوضعية الحوارية بين الأمّ ورضيعها سوف يلحظ أن الشرط الضروري للحوار هو الحبّ بينهما وانجذاب كلّ واحد منهما نحو الآخر. إذ يحاول كل واحد منهما استعمال لغة الآخر: فالأم تنتج لغة تشبه ثغثغة رضيعها، الذي يحاول بدوره تقليد تعابير وجه أمه، أي أن يتبنى لغتها.[27] وهي العلاقة التي يلزم أن تكون بين الدولة وأفرادها.

  وتعدّ العلاقة الحوارية هذه أيضا بمثابة علاقة تفاوضية وهي ما اصطلح أمبرتو إيكو على تسميته، «الطبيعة التفاوضية للمعنى.» فإذا افترضنا أن المعنى محكومٌ بقواعد صارمة قوامها العلاقات، أو بسنن إنتاج دلالة جامدة وتفتقد للمرونة، فإن التواصل والتأويل في الواقع سيظلّ محصورا في التبادل وفك السّنن. وبالمقابل إذا كان السّنن أو الشفرات متعدّدة المعاني، فإن العلاقات بين التعبيرات والمحتويات تصبح متغيّرة ومتأثرة بالثقافة، وهذا ما يمنح إنتاج الدلالة «هامشًا للعب» يمهّد الطريق نحو العمليات التفاوضية.[28] ويرى إيكو أن مفاوضة المعنى ممارسة جوهرية على المستويين الاجتماعي والثقافي، وأساسية على المستوى الإدراكي، ولا مفرّ منها على المستوى التواصلي.

   إجمالا فإن مفهومي الكون السميائي والحدود كما صاغهما يوري لوتمان يقدمان لنا صورة واضحة القسمات عن العالم في صورته المختزلة انطلاقا من التقابلات الثنائية في جلائها وقابليتها الإدراكية. وإن الحدود تظهر مثل أماكن إبداعية خارقة للعادة، وباكتشافنا لهذه المناطق الرمادية الغامضة نستطيع أن نفهم بوضوح من نحن ومن نكون: أي ما يجعلنا أو ما يجعل منّا بشرا. ويشكّل التحول نحو هذه الحدود في الوقت نفسه مناسبة لحدوث اضطرابات وتساؤلات قادرة على إحداث تأثيرات في عاداتنا وطرق تفكيرنا واستعمالات لغتنا، كما يشكل أداة مثلى لإنتاج وتلقي الدلالة.[29]

  ما يضمن وحدة الكون السميائي هي التشكلات البنيوية الواصفة ومفهوم الحدود. فبين المركز والهامش يقبع مفهوم الحدّ، إنه موضع خاصّ يحظى بأهمية بالغة في أطروحة لوتمان لأنه من بين النقط الأكثر إثارة داخل السيرورة الدلالية للكون السميائي، وقد وصفه لوتمان بأنه: مفهوم يحمل تعارضا في ذاته؛ فهو يصل ويفصل في الوقت نفسه. فهو دائما الحدّ بالنسبة لشيء آخر، إنه المتاخم لكل الثقافات الحدودية ولأكوانها السميائية المتجاورة

   وتتبدى وظيفة الحدود في مراقبة وتنقية وتكييف ما هو خارجي مع ما هو داخلي بين ما هو هامشي وما هو مركزي، كما تلعب دور المحفّز لإنجاح كل فعل  تواصلي؛ «لأن الفضاء السميائي يشكل نقطة تقاطع العديد من الحدود، وكل رسالة تحاول العبور لهذا الفضاء يلزم ترجمتها مرارا وتحويلها لتناسبه وتنسجم معه. بهذه الطريقة فإن كل سيرورة لتوليد معان أو رسائل جديدة يشبه إلى حدّ ما كرات الثلج.»[30] ويفترض المبدأ الحواري وجود توتّر دائم بين الحدود، ليس فقط بين الأنساق المختلفة، بل أيضا بين مستويات أي نسق سميائي كيفما كانت طبيعته. فإذا غاب التوتّر عن الحدود يغيب معه التواصل والحوار ويغيب معه انبثاق كل معنى جديد. ويشكل التوتر عنصرا جوهريا في ديمومة الثقافة واستقرارها. لأن المعنى، حسب أمبرتو إيكو، دائمًا مرتهنٌ بالتفاوض بين القيم الدلالية التي تحفظها الموسوعة، ومقتضيات السياق والظروف الخاصة بموقف معين، والهم الشخصي للذوات الباحثة عن المعنى. وهذا هو السبب في أن الحياة الاجتماعية والثقافية تمتلئ دائمًا بالصراع. فكل معركة اجتماعية، هي – قبل كل شيء – معركة حول معاني مفردات معينة، وقيم معينة، وأبطال معينين. فإذا كنا مضطرين إلى التفاوض (مع الثقافة والمجتمع اللذين ننتمي إليهما) مع معاني المفردات التي نستخدمها، فإننا بالمثل مضطرون إلى التفاوض مع معاني النصوص التي نقرؤها، والممارسات الثقافية التي نحدثها، وحتى مع حقائق معينة (التاريخ بأحداثه؛ فالمذابح والحروب تصبح جزءًا من التفاوض.)[31]

هوامش الدراسة


[1] -Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ; SEMIOTIQUE ET SOCIETE, Nouvelles approches nouveaux défis, ACTES DU CONGRES DE L’ASSOCIATION MAROCAINE DE SEMIOTIQUE, Université Moulay Ismail, Meknès 2014.p.5.

[2] – Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation; Op. Cit. .p.8/9.  

[3] – Ibid. p.9.                                                                                                         

[4] – Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015

[5] – Ibidem.                                                                                                          

[6] – محمد ابن منظور جمال الدين:  لسان العرب مادة حجج دار صادر بيروت الطبعة الثالثة 1414 هـ.

[7] – معجم المعاني الجامع. مادة حجج.

[8] – المعجم الوسيط. مادة حجج

[9]Umberto, Eco. Sémiotique et philosophie du langage ; Op. Cit. pp.13-14.

[10]– Julius, Erdmann Bodies, Gasmasks, and Buttons Visual Photographic Forms of Protest in Social Media, in Lexia. Rivista di semiotica Protesta, 13/14, LEXIA. JOURNAL OF SEMIOTICS dicembre 2012, edited by Massimo Leone. p.143.

[11]– Julius, Erdmann Bodies, Gasmasks, and Buttons Visual Photographic Forms of Protest in Social Media, in Lexia. Rivista di semiotica Protesta, 13/14,Op. Cit. p.143.

[12] –  للمزيد ينظر كتاب :

Marcel Danesi, The Semiotics of Emoji. The Rise of Visual Language in the Age of the Internet,  2017 Bloomsbury Academic.

[13]– Clifford, Geertz, 1973. The Interpretation of Cultures, New York: Basic Books. P. 7.

[14] –  Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ;op. Cit. p.6.      

[15] – ALEKSEI SEMENENKO The Texture of Culture ;Op. Cit. P.99.          

[16] – Jacques FONTANILLE, La sémiotique face aux grands défis sociétaux du XXI e siècle Actes, Sémiotiques n°118 | 2015

[17] -Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ; Op. Cit. p.11.    

[18] – Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ; Op. Cit. p.11.   

[19] -Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ; Op. Cit. p.11/12.

[20] -Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ;Op. Cit. p.12.     

[21] -Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ;Op. Cit. p.12.    

[22] – Massimo Leone, Vers une sémiotique de la protestation ;Op. Cit. p.6.      

[23] -Yuri M. Lotman. Universe of the Mind.  A Semiotic Theory of Culture ; Op. Cit. p.124.

[24] – محمد الغزالي: الإسلام والاستبداد السياسي، القاهرة، نهضة مصر 1997، ص: 105

[25] – عبد الله بريمي البشير التهالي سعيد كريمي: الكتابة والسلطة أعمال المؤتمر الدولي الثالث، دار كنوز المعرفة الأردن 2014. ص: 12.

[26] –    Michel, Foucault.  Surveiller et punir, Editions Gallimard, 1975, p : 34 .

[27]– Yuri M. Lotman, Universe of the Mind, Op. Cit. P. 144.                            

[28]-Anna Maria, Lorusso, Cultural Semiotics, Op. Cit. p.131/132.                    

[29]– Rachel Bouvet, Pages de sable. Essai sur l’imaginaire du désert, Montréal/Québec, XYZ Editeurs, coll. « Documents », p 163 -164.  

[30]– Yuri M. Lotman, Universe of the Mind, Op. Cit. P. 140.                            

[31]-Anna Maria, Lorusso, Cultural Semiotics, Op. Cit. p. 132.                          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.