آخر الإدراجات

سميائيات بورس: الخلفيات المعرفية والفلسفية

سميائيات بورس: الخلفيات المعرفية والفلسفية

الخلفية الفلسفة: الظاهراتية والبراغماتية

لا يمكن تناول مفهوم السميائيات التأويلية عند شارل ساندرس بورس بعيدا عن نسقه الفلسفي والعلمي، فهو نسق يستند إلى مسلمات تختزن داخلها رؤية ما للحقيقة والكون، ولمكانة الإنسان داخله. ويجدر بنا ألاّ نتجاهل هذه الأشياء، خاصة وأن بورس نفسه أكّد في هذا الإطار، بحسب ما يذكر جيرار دولودال، «أن للذين يهملون الفلسفة نظريات ميتافيزيقية شأنهم في ذلك شأن الآخرين»[1]. فالسميائيات عند بورس لا تنفصل عن “الظاهراتية”§أو”الفانيروسكوبياPhanéroscopie؛[2]«والفانيروسكوبيا هي وصف الظاهر Phanéron؛ وأقصد بالظاهر، المجموع الكلي لكل ما هو حاضر في الذهن، بأية صفة وبأية طريقة، دون اعتبار ما إذا كان هذا يتطابق مع شيء واقعي أم لا»[3]. بمعنى آخر إن الفانيروسكوبيا هي دراسة الظواهر، أي إظهارها وإزالة حجبها وجعلها مرئية واضحة ومدركة وقابلة للتجلي، في الاتجاه الذي تفكَّك فيه هذه الظواهر إلى ثلاثة أنماط أو مقولات أولية تسمح بإعادة تأليف الظاهرة من جديد. إذ يتم النظر إلى الظاهرة بوصفها نوعية وإمكانا بالنظر إلى خصائصها الذاتية والأحادية، دون اهتمام بما تحيل وتدلّ عليه، ثم بعد ذلك يُنظر إليها كشيء موجود مجسد في وقائع وأشياء في بعدها الثاني، ثم تُدرك في الأخير على شكل قوانين ومفاهيم توجّه وتتحكّم في الموجودات والوقائع بوصفها أشكالا دلالية وتوسطية تؤلِّف بين الأول والثاني.

إن موضوع ميتافيزيقا بورس هو الفانيرون؛ أي مجمع الظواهر، لا كما تتجلى في الإدراك الخارجي، بل كما تحضر في الذهن. وتجعل ظاهراتية بورس من الفلسفة الكانطية نقطة انطلاق لها باعتبارها فلسفة التجربة المدركة التي تستند إلى فكر العلوم التجريبية. إن فلسفة بورس حسب جيرار دولودال هي فلسفة:

استمرارية وواقعية  براغماتية:

 فلسفة استمرارية لأنها تتعارض مع النزعة الواحدية بنفس القدر الذي تتعارض فيه مع النزعة الثنائية. تتعارض مع الواحدية لأنها تؤاخذ عليها ثباتها وجمودها ويقينيتها وعصمتها من الخطأ. وتتعارض من النزعة الثنائية لأنها تجيب على أن الفكر ليس ملكة عارفة خارج الموضوع المراد معرفته (شيئا أو طبيعة)، بل سيرورة ذات إبداع متواصل في الأشياء، ومن هنا الطابع “الجدلي” والسياقي (و”التعددي حسب وليام جيمس) لهذه الفلسفة. بناء على ذلك فالعلامة بالنسبة لبورس ليست بالحرف شيئا يلزم تفكيكه من قبل مؤول ما، بل هي عنصر مكون لسيرورة لا يتم فيها تمييز المؤول: إنها سيرورة السميوزيس. [4]

وهي فلسفة واقعية لأنها تتعارض مع النزعة الاسمية لأن الفلاسفة الواقعيين كما يقول بورس (وأولهم دان سكوت) يذهبون إلى أن الحقيقة تنتمي لما حاضر لدينا في المعرفة الحقيقة كيفما كانت في حين يذهب أصحاب النزعة الاسمية إلى أن”الأسباب  الخارجة حتما عن الإدراك هي الحقائق الوحيدة.[5] إن الواقعي حسب بورس هو الذي ستصل إليه المعلومة والاستدلال في النهاية عاجلا أو آجلا، وهو المستقلّ عن هواي وهواكم وهكذا فإن الأصل نفسه لمفهوم الواقع يبين أن هذا المفهوم يتضمن يستلزم أساسا مفهوما لجماعة لا حدّ لها وقابلة لنمو معرفي محدد[6].

وهي فلسفة براغماتية، لأنها ليست نوعا لمنفعية على الذوق الأمريكي كما كنا نعتقد منذ أمد بعيد قبل أن يتجرأ اللسانيون على إدخال البعد التداولي في نظرياتهم اللسانية باعتباره مستوى من مستويات الدرس اللساني والذين أخذوه عن بورس بواسطة شارل موريس. [7]

ولقد عبّر بورس عن تصوره للقضية البراغماتية في ثلاث صيغ يمكن إدراجها على النحو الآتي[8]:

  • الصيغة الأولى: فكّر في التأثيرات التي يمكن تصورها ولها نتائج عملية نستطيع من خلالها أن ندرك موضوع تصورنا، حينها ندرك أن تصورنا لهذه الآثار هو كل تصورنا للموضوع. 
  • الصيغة الثانية: لكي يمكن التحقق من معنى التصور الذهني في التجربة، يجب على الإنسان أن يتأمل النتائج العملية التي تنتج بالضرورة عن صدق ذلك التصور، ومن مجموع هذه النتائج نحصل على المعنى الكلي للتصور.
  • الصيغة الثالثة: إذا استطاع إنسان ما أن يحدد بدقة كل الظواهر التجريبية التي يمكن تصورها، والتي يتضمنها تثبيت أو نفي تصور ما، فإنه سيتوفر لديه تحديد كامل للتصور ولا يوجد مطلقا أي شيء زائد على ذلك. 

وعلى الرغم من اهتمامات شارل ساندرس بورس الفلسفية، فإنه لا بد من الإقرار بوصفه مؤسس المذهب البراغماتي، رفقة زميله وليام جيمس وبعض الأصدقاء المنتمين للنادي الميتافيزيقي.كان القاسم المشترك بين أفراد هذه المجموعة، هو بالضبط نقدهم للتفكير الميتافيزيقي؛ أي لفلسفة سجالية خالصة، تدعي معرفة الحقيقة النهائية للعالم.

 وكان شارل ساندرس بورس وويليام جيمس، وأصدقاؤهما على انسجام تام للإقرار بأنه من الضروري اعتماد منهجية جديدة لإخراج التفكير من قوقعته الميتافيزيقية؛ “فالحقيقة” بوصفها تطابقاً كاملاً بين الفكر والواقع، هي مجرد سراب بالنسبة للعقل، ومن هنا، يلزم التخلص من الأفكار العامة، غير الثابتة في الغالب الأعم التي ينتجها التفكير الميتافزيقي؛ (أي الفلسفة السجالية)، من أجل بلوغ معارف مشخصة وقابلة للتحقق على المستوى التجريبي. ثم لأن أفكارنا ليست حقائق كونية، ولكنها أدوات موجهة لحل قضايا عملية[9].

 والبراغماتية هي الاسم الذي حاول بورس نفسه تغييره إلى”pragmaticism”سنة1905 لينحت لنفسه نسقا فلسفيا متفردا وتحديدا اصطلاحيا مغايرا، لأن لكل علم جديد، في رأيه، مصطلحات جديدة.

 وترتكز براغماتية بورس على أساس مفاده أن قيمة المفهوم تتبدى فيما يترتب عليه من آثار عملية ونتائج واضحة وملاحظة. فالبراغماتية عنده بدلاً من أن تركز على مقدمات الأفكار، فإنها تركز على النتائج المترتبة على تلك الأفكار، فهي تـُوجه نحو الاهتمام بالأشياء النهائية وبالنتائج ومن ثم، هي لا تعنى بالسؤال عن ماهية الشيء أو أصله بل عن نتائجه، فتوجه الفكر نحو الحركة ونحو المستقبل. وهناك فكرة أساسية عن البراغماتية تتبدى في كون الاعتقاد أو الإيمان هو الذي يؤهل الفرد ويعدّه أو يؤهّله للقيام بالفعل.

 ولقد عمم شارل ساندرس بورس هذا المبدأ، فلم يعد مهماً عنده الاصطلاح أو الفكرة التي ليست صورة حسية، إنما أثر هذا الاصطلاح في المحسوسات، أي في التجربة والملاحظة، انطلاقا من سياقات توجهها. وعليه فالفكرة التي تقود إلى العمل هي الفكرة الصالحة والحقيقية.

 وقد أوضح بورس هذا في دراستهالشهيرة تثبيت الاعتقاد  (1877) وكيف نجعل أفكارنا واضحة 1878 [10]، حيث أبان من خلال الدراستين أنه لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا عن موضوع ما فإننا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي، قد يتضمنها الشيء أو الموضوع؛ مبينا أن الفعل هو غاية كل فكرة. وإن أحد رهاناته هو البرهنة على قدرة الفلسفة وعلى بعدها العملي في التعاطي مع قضايا الإنسان.

ويستخلص شارل ساندرس بورس من رؤيته للمعرفة، نتيجة منهجية مهمة مفادها أن الأفكار لا يمكنها أن تتطور إلا إذا اتخذت صياغة إجرائية، تسمح بتجريبها واختبارها، وبالتالي توجيه العمل. فالقيمة الحقيقية لنظرية ما، تقاس بمدى ما تقدمه من قضايا قابلة للتحقق تجريبيا، وقوة معرفة ما، مرتبطة بنجاعة الأعمال التي توجهها بدقة[11]. ويستعمل في هذا مجموعة من المفاهيم من قبيل العلمي والعملي والتطبيقي والمادي والتجريبي..ليس للبرهنة على سلامة الأفكار والمواقف وجدوى الأشياء، وإنما لتمييز الواقعي من الأشياء والأفكار وغير الواقعي مما هو غير محسوس.

أن نفكر بشكل جيد معناه، أن نحول الخطابات الغامضة والعامة، إلى قضايا محددة الأبعاد، ولها آثار قابلة للقياس؛ بهذه الطريقة، حسب شارل سندرس بورس، نكون قادرين “على جعل أفكارنا واضحة”. وعلى هذا النحو، يعرف البراغماتية بأنها: “نزعة تجريبية”؛ وبالنسبة إليه، فإن بعد نظرية أو تصور ما “يكمن فقط في الآثار المقبولة منطقياً التي يحتمل أن تكون لها على توجيه الحياة[12]“.

كما أن قيمة الفلسفة لن تكون مجدية أكثر إلا في ارتكازها على مبادئ علمية ورياضية. وقد عرف بورس في فلسفته بتركيزه على العدد “ثلاثة“وبغض النظر عن العلوم فقد ميز بورس بين ثلاثة أصناف فلسفية هي:

  1. الظاهراتية (في تجلي الظاهرة وتحققها) بمقولاتها الثلاث؛ الأولانية والثانيانية والثالثانية.
  2. والعلوم المعيارية (التي تبحث في معايير العلاقات بين الظواهر كالجمال والحق والخير)بفروعها الثلاثة؛ علم الجمال وعلم الأخلاق وعلم المنطق.
  3. والميتافيزيقا (ما هي حقيقة الظاهرة) بأصنافها المتافيزيقا العامة (الأنطولوجيا) والميتافيزيقا الدينية والميتافيزيقا الطبيعية.

الخلفية العلمية: المنطق والرياضيات

يعدّ المنطق الركيزة الأساسية التي تقعّد للتفكير والحصول على الدلالات المتنوعة. يقول بورس: «أعتقد أنني أبنت على أن المنطق في معناه العام ليس سوى اسم آخر للسميائيات، إنها نظرية العلامات التي تبدو شِبه ضرورية أو شكلية، وعندما أنعت النظرية بأنها “شبه ضرورية” أو شكلية، أعني أنني عندما ألاحظ خصائص بعض العلامات المعروفة لدي، فإنني أتوصّل انطلاقا من الملاحظة نفسها وعن طريق سيرورة لن أتردّد في تسميتها التجريد إلى بعض الملفوظات الخاطئة ومن ثمّ وبمعنى ما، فهي ملفوظات لا أهمية لها لأنها غير ضرورية بالنظر إلى ما ينبغي أن تكون عليه خصائص كل العلامات الموظَّفة من قِبل ذكاء “علمي”؛ أي ذكاء قادر على التعلُّم والاكتساب انطلاقا من التجربة»[13].

إن ما أسماه بورس – في هذا النص – بالسيرورة التجريدية كفيل بتوضيح علاقة السميائيات بالمنطق، فالسيرورة التأويلية عنده مرتبطة في اشتغالها بمجموعة من العمليات الاستدلالية (الاستقراء والاستنباط والافتراض) المؤدّية إلى إنتاج الدلالة وتداولها. وبفضل هذه السيرورة التي تماثل في العمق، وبدرجة أكبر، الاستدلال الرياضي، نستطيع تشييد علاقات§ بين الأشياء قصد الوصول إلى استنتاجات تتعلّق بما يكون صادقا من العلامات في كل الحالات، شريطة أن يكون الذكاء الذي يستعملها ذكاءً علميا[14]. لذلك فالإحالة على السيرورة المنطقية في بعدها السياقي والتداولي، يعطي لسميائيات بورس الحق في التمييز داخل التأويلات بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع، ويعطيها الحق كذلك في تبني توقّعات رمزية أو سيناريوهات قادرة على بناء مسالك دلالية وعوالم تأويلية ممكنة.

فمن الممكن مثلا أن نستنبط من الدخان وجود النار، ومثل هذه الحالة هي حالة استدلالية، وحياتنا اليومية مليئة بمثل هذه الأفعال. وعلى هذا الأساس، فإن كل فعل استدلالي- منطقي يقتضي من هذه الزاوية النظر إليه بوصفه فعلا سميائيا.

وبوصف السميائيات منطقا في تعريف بورس، فإنها تشكل فرعا من فروع الثلاثية البانية لفلسفة القيم أو العلوم المعيارية إلى جانب علم الأخلاق الإتيقا وعلم الجمال الإستطيقا. فالمنطق يستدعي علم الأخلاق باعتباره علم الخير والشر الذي يستدعي بدوره علم الجمال، علم الخير النهائي المرتبط بفكر الجماعة أو العشيرة. إن المنطق وبالتالي السميائيات شأنه شأن باقي العلمين المعياريين الآخرين يستند إلى الفلسفة الظاهراتية التي تستند بدورها على الرياضيات. [15]   

لقد منحت الرياضيات الأساس العلمي المتين لثلاثية بورس الظاهراتية، ونظرا لأنها تتعلق بأنواع الوعي الثلاثة، فإنها ترتبط بأفكار الواحد والاثنين والثلاثة بوصفها الصيغ الأولية الثلاث التي لها علاقة بالتحليل المنطقي. إن واحد هو نمط الفكرة البسيطة، واثنين هي نمط الفكرة العادية النسبية العادية، وثلاثة هي الصيغة الأولى والبسيطة للتأليف الذي تكونه الوحدة المباشرة بين أكثر من فكرتين والتي لا تقبل الاختزال في زوج من الأزواج ولكنها متضمنة لفكرة يتم التعبير عنها بواسطة (واو الربط) التي توحّد دائما بين ثالوث أو مجموعة أكبر. [16] وهذا هو الأمر الذي جعل المنطق يحتوي على ثلاثة فروع معرفية هي: النحو النظري أو النحو الخالص الذي هو السميائيات بمعنى من المعاني ثم المنطق بالمعنى الدقيق أو النقد ثم البلاغة الخالصة أو الميتوديقا والتي تتطابق للتو وعلى التوالي مع الأبعاد الثلاثية للعلامة- على نحو ما سنشير إليه في الفصول الموالية- بعد الماثول(البعد التركيبي) وبعد الموضوع(البعد الدلالي)  وبعد المؤول(البعد التداولي). [17]

وكلّ عنصر من هذه العناصر (الماثول الموضوع المؤول) يتفرّع بدوره إلى تفريعات ثلاثية أو توزيع ثلاثي، وفق نمط الإحالة، وهي تفريعات أكثر غنى وأكثر تشعّبا. وتتحكّم في هذا التفريع تراتبية نسقية تراعي مبدأي الشمولية والتدرّج، وهي تراتبية منطقية أصيلة لا تناقض بين نتائجها ومقدّماتها. ولقد سبق لبورس أن برهن على الطابع الضروري للتوزيع الثلاثي للعلامة، إذ لا يمكن التفكير في العدد “واحد” دون أن نتصوّر في الوقت نفسه حدّ هذا العدد. هذا الحدّ سنسميه “اثنين”. غير أن تصور “واحد” و”اثنين” بوصفهما مستويين منفصلين يستلزم مستوى “ثالثا” من طبيعة مغايرة؛ أي طرفا وسيطا يغيّرهما أثناء التفكير فيهما بوصفهما مستويين مختلفين. إن ثلاثية ما لا يمكنها أن تُحلّل إلى ثنائية. بل إن كلّ علاقة تتجاوز “الثلاثة” يمكن إرجاعها إلى تأليف ثلاثي. فالثلاثية بهذا الشكل، إذن، ضرورية وكافية في آن واحد؛ ضرورية منطقيا، وكافية تداوليا. وضرورتها تأتي من كونها قادرة على تشييد علاقات لامتناهية، بينما هي كافية في قدرتها على سدّ حاجيات الاقتصاد عبر الاختزال الممكن لأيّ عدد يتجاوز “ثلاثة” إلى تأليفات ثلاثية[18].

هذا التصور الثلاثي للعلامة يقتضي أن يُدرك داخل إطار فلسفة بورس الظاهراتية المرتكزة على نظرية المقولات (الأولانية والثانيانية والثالثانية)، والتفكير المنطقي والرياضي؛ خاصة منطق العلاقات. لأن الكشف عن الترابط وعن العلاقة بين الأشياء في بعدها الأول وبين أشكالها المحققة في بعدها الثاني، هو السبيل إلى تحديد بؤر التدليل وقضايا التأويل المرتبطة به.

إن أي فعل سميائي عند بورس مرتبط بشكل وثيق بعمليات الإدراك ومقولاته، ولا يمكن الحديث عن هذا الفعل بكيفية متحققة في غياب هذه المقولات. فإدراك الإنسان لذاته وللعالم الخارجي في الهنا والآن، إدراك يبرمجه فعل العلامة، إدراك تبرمجه الثقافة عبر أنساقها الدالّة اللفظية أو غير اللفظية التي تؤطِّر عمل الإنسان ومختلف ممارساته الاجتماعية والثقافية، إدراك محصور داخل شبكة متّسقة ومركبة ولامتناهية من العلامات لدرجة تجعل إلغاء علامة ما تُخلّ بتوازن هذا الإدراك، «ذلك أن التجربة الإنسانية بكافة أبعادها تشتغل كمهد للعلامات: لحياتها ولنموّها ولموتها، فلا شيء يفلت من سلطان العلامة ولا شيء يمكن أن يشتغل خارج النسق الذي يحتويه ولا شيء يحلّق حرا طليقا لا تحكمه حدود ولا يحدّ من نزواته نسق. إن كل شيء يدرك بصفته علامة، ويشتغل كعلامة. فالتجربة الإنسانية كلها بدءا من صرخة الرضيع إلى تأمل الفيلسوف ليست سوى سلسلة من العلامات المترابطة والمتراكبة»[19]، «فالإنسان علامة أو حوار للعلامات؛ داخل هذا الحوار يطرح الشكّ أسئلته فتشتغل الأفعال والمعتقدات والعادات باعتبارها مؤوِّلات »[20].

 ولكي ندرك كنه إنتاج دلالة ما، علينا أن نعود حسب بورس إلى التجربة الإنسانية البسيطة الأولى. ويُصطلح على هذه العودة “بالإيديوسكوبي” idéoscopie؛ أي العلم الذي يقوم «بوصف وتصنيف الأفكار المنتمية إلى التجربة العادية، إنها الأفكار التي تظهر بكيفية طبيعية في ارتباطها بالحياة العادية دون الاهتمام بصحتها أو بعدم صحتها»[21].

ويظهر مما تقدّم، أن فلسفة بورس تعمد إلى وصف خاصيات الظواهر وإدراج هذه الأخيرة ضمن مقولات تتلبّس الوجود بوصفه نوعية ووجودا وقانونا أو ضرورة. ويبدو واضحا، أن الطابع الظاهراتي المميز لنظرية المقولات، هو التركيز على التجربة الإنسانية في أبعادها الفردية والجماعية والثابتة والمتحركة. كما أن كل القضايا والإشكالات المطروحة للتداول، تتعلق أساسا بنمط بناء ومعقولية معطيات تلك التجربة. فما يجربه الإنسان، وما ينتجه من أفكار وحقائق ينبغي أن يُفهم بوصفه خلاصة أو حصيلة لتفاعل محدّد بين ثلاثة مستويات أو مقولات أساسية حاضرة في كل الظواهر. وقد اصطلح بورس على تسمية هذه المقولات: الأولانية والثانيانية والثالثانية.

المقولات الفلسفية

الأولانية: مقولة الإحساس والنوعية

يحدد بورس الأولانية في قوله:

«الأولانية هي نمط كينونة الشيء كما هو في ذاته إيجابا دون اعتبار لشيء آخر. ولا يمكنها أن تكون إلاّ إمكانا»[22]. وتشير هذه المقولة إلى اللحظة المجردة للشيء. ولا يمكن لهذا الشيء أن يفهم إلاّ في ذاته. ولإعطائنا محتوى أكثر تحديدا وتدقيقا لهذه المقولة، فإن بورس يقول عنها: إنها مقولة الشعور والأحاسيس والنوعيات. فهي تشتمل على نوعية الظواهر؛ كالأحمر والأخضر والخشن والليّن…، كما تشتمل على أحاسيس الحزن والفرح والانفعال والخوف والألم… ويُشترط في هذه الأحاسيس والنوعيات أن تكون مبهمة وغامضة وغير محددة؛ «فالحمرة مثلا قد كانت قبل العثور على شيء أحمر في الكون، إنها عبارة عن إمكان نوعي موضوعي. إن الحمرة في ذاتها، حتى ولو تجسّدت، هي بمثابة شيء موجب وأصيل»[23].

هذه النوعيات لا تملك هوية محددة، ولا يمكن التفكير فيها بصورة متمفصلة، ولا يمكننا معها أن ننتج دلالة. فهي لا تتحدد إلا من خلال خصائصها الذاتية بعيدا عن تجسيدها في وقائع مادية، فالحمرة كما سلف موجودة في الأذهان قبل وجود قلم أو معطف أحمر مثلا في الأعيان. وعلى هذا الأساس، «فالإحساس هو نوع من الوعي الذي لا يتطلّب أيّ تحليل أو أية مقارنة ولا أية سيرورة كيفما كان نوعها، كما لا يتجسد لا كليا ولا جزئيا في واقعة ما يمكن من خلالها تمييز مجال وعي ما عن آخر»[24].

إن العيش داخل الأولانية، معناه العيش داخل عالم لا زمني بدون حدود ولا قيود، فهي مقولة الممكنات التي لم تتشكّل بعد ومقولة العام. إن الأمر، داخل هذه المقولة، يتعلق بامتلاك تصور عن الكينونة في كليتها وشموليتها وفي حضورها الأصلي والمباشر والعفوي في غياب أسباب وعلل وجودها؛ «فالمعطيات الموصوفة داخل الأولانية بحكم احتماليتها قد تتحقق وقد لا تتحقق، وقد تتجسد في شيء آخر أو تظل مجرد إمكان، إن هذا لا يمس من جوهرها ولا يعدّله. إنها المخيال الذي تقتله الثالثانية ولكنه يبعث من جديد من رماده لكي يغزو الثالثانية ويغنيها. إنها عامة، ولكن عموميتها ليست من طبيعة قانونية بل من طبيعة الهلامي والسديمي»[25].

الثانيانية: مقولة التجربة والصراع والواقعة

يحدد بورس الثانيانية في قوله:

«الثانيانية هي نمط كينونة الشيء كما هو في علاقته بثانٍ، دون اعتبار لثالث كيفما كان نوعه»[26].

ومضمون هذه المقولة هو التجربة الصافية، ودورها يكمن في تجسيد المعطيات الموصوفة داخل الأولانية في أحداث ووقائع محددة. فهي مقولة التخوم والحدود والوجود والتجربة والصراع والواقعة، وكلّ ما يتم إنتاجه في الزمان والمكان بكيفية محددة.

إن الثانيانية تقتضي الأولانية، فالأحاسيس والنوعيات لا توجد إلاّ في علاقتها بثانٍ. فهي بذلك مقولة الوجود، «والوجود هو نمط كينونة الشيء الذي يوجد في تعارضه مع شيء آخر. فالقول بوجود طاولة ما، معناه القول بكونها صلبة، ثقيلة، كثيفة، ورنّانة، بمعنى آخر إنها قادرة على إحداث آثار مباشرة في الحواس، كما أنها تنتج آثارا فيزيائية خالصة مثل انجذابها إلى الأرض (مما يعني كونها ثقيلة)، ومقاومتها الدينامية لأجسام غريبة (مما يعني امتلاكها قوة لمقاومةٍ سلبية؛ مقاومة الأشياء الصلبة مثلا)، ومقاومتها الضغط (مما يعني كونها مرِنة وليّنة)، وامتلاكها لطاقة حرارية ما،... والقول بوجود طاولة شبح إلى جانبها لا تستطيع التأثير في الحواس، ولا إحداث أيّ آثار فيزيائية من أيّ نوع ما، معناه الحديث عن طاولة متخيلة. إن الشيء الذي لا يتعارض مع غيره، لا يمكن أن يوجد»[27].

بهذا الشكل، نتحدث عن الثانيانية بوصفها مقولة الإدراك الحسي، فهي تعيِّن بكيفية جيدة عالم الأحداث والظواهر محققة في موضوعات مادية محسوسة عكس ما كانت عليه في الأولانية. إنها مقولة الصراع،«وأقصد بالصراع، الفعل المتبادل بين شيئين دون اعتبار لثالث، أو دون اهتمام بأيّ أداة أو وسيلة كيفما كان نوعها، وبشكل أخص قانون هذا الفعل»[28].

إذا كانت المعارف المتولدة عن الأولانية معارف غامضة وبسيطة ومجردة، لأنها معارف مفصولة عن سياقها الزمني والمكاني، فإن الثانيانية تحدّ من هذا الطابع المطلق؛ فهي تجعل الغامض واضحا والمجرد محسوسا والبسيط مركبا وتجعل الإمكان وجودا عينيا؛«ودخول الوجود معناه دخول الفضاء ودخول الزمن، من المتواصل إلى اللامتواصل، ومن الغموض واللبس والإبهام إلى الوجود، أي الأحاسيس والنوعيات مجسدة في وقائع محددة»[29].

«إن الثانيانية هي مقولة الواقعي، والفردي والتجربة والواقعة والوجود: وجود الشيء ووجود الحدث والفكرة والوضعية والحلم المدرك. إنها مقولة “الهنا” و”الآن” وما يتم إنتاجه في مكان وزمن محددين، وهي مقولة القوة في بعدها الخام، والجهد الذي يصطدم بمقاومة، إنها مقولة الفعل وردّ الفعل»[30].

إن الثانيانية، هي مقولة التجربة المجسدة في فعل قابل للإدراك، هذا الفعل لم يتحول بعد إلى فكر.

إن الأول والثاني غير كافيين لإنتاج دلالة، لهذا لا بدّ من حضور العلاقة باعتبارها شرطا حقيقيا لتبرير نمط الإحالة والتنظيم، «فالعلاقة الدينامية بين الأول والثاني، تُظهر كائنا فرديا خارج مدار التجربة. غير أن هذه العلاقة منظورا إليها في بساطتها لا تموضع الأشياء إلا في كينونتها المنتظمة ووجودها اللحظي والفردي. وهذه الأشياء توجد هنا لا أقل ولا أكثر. ومع ذلك فهي تترابط فيما بينها، لتؤلِّف نسقا. إن الماضي يوجد في الحاضر، والحاضر ينفتح على المستقبل. كما أن الأول والثاني غير كافيين بتاتا لإنتاج دلالة وغير كافيين كذلك للتخلص من مقتضيات الذات الإنسانية في أبعادها الزمنية والمكانية»[31].

فإذا كانت الأولانية مقولة دالة على الإمكان، والثانيانية مقولة دالة على الوجود والتجربة الصافية، فإن تحديد كل ما يتعلق بتنظيم التجربة الإنسانية من خلال المقولتين لن يكون كافيا لإنتاج دلالة، ما دام هناك غياب لفكر وقانون وضرورة يوجه ويؤطر ويبرر العلاقة بين المقولة الأولى والمقولة الثانية. وهو ما يعني بقاؤنا في مرحلة قائمة على عملية ربط عرضي بين إمكان ووجود ليس إلاّ. ولهذه الغاية لا بد من دخول عنصر ثالث يكون مسؤولا عن تبرير هذه العلاقة ويقوم في الوقت نفسه بالكشف عن القانون الذي يجعل من تحقق الإمكان داخل الوجود أمرا ممكنا. إن هذا العنصر هو الثالثانية.

الثالثانية: مقولة الفكر والدلالة والقانون

يتلخص مضمون هذه المقولة، في كونها تربط الأولانية بالثانيانية، وتبرر العلاقة بين الأول والثاني، فلا يمكن للأول أن يحيل على الثاني إلاّ بتوسط الثالث الذي يضعهما في علاقة. بذلك نتحدث عن الثالثانية بوصفها مقولة التوسط الإلزامي. والتوسط معناه جعل الأول يحيل على الثاني وفق قاعدة تشتغل كقانون. هذا القانون لا يظهر إلاّ عبر وقائع تجسِّده في الثانيانية؛ هذه الوقائع نفسها تحيّن كلّ نوعيات الأولانية[32].

إن الثالثانية هي مقولة الضرورة والفكر والدلالة والقانون. وهي حسب دولودال «مقولة عامة مثلها في ذلك مثل الأولانية، غير أن عمومية الأولانية ترتبط بالإمكان، في حين ترتبط فيه مقولة الثالثانية بالقانون، فهي مقولة العلاقة المفكّر فيها، ليس في طابعها المجرد، بل في ارتباطها بالفعل المستقبلي، إنها مقولة الإسناد العلمي التي تقتضي أولا وثانيا وتضعهما في علاقة … وهي مقولة التوسط بامتياز: مقولة العلاقة بين المفاهيم، ومقولة الاستمرارية … والدلالة».[33]

إن الثالثانية هي مقولة السنن الثقافي والرمزي واللغوي، وبفضلها يستطيع الإنسان الإمساك بالثاني (الأحداث والوقائع مجسدة) وبالأول الذي لم يتشكّل بعد (الإمكان والنوعيات). وبالتالي، فهذا الإنسان لا يحيا في الأولانية ولا في الثانياتية، وإنما يحيا في الثالثانية بوصفها معطى رمزيا، حيث يشتغل الرمز كسيرورة توسطية. من ثمّ لا يمكن للإنسان داخل الثالثانية أن يوجد أمام الحضور المباشر للأشياء، إذ يبدو أن الثانيانية تتراجع كلّما تقدّم النشاط والأشكال الرمزية (الثالثانية). ومؤدى ذلك أن المعرفة الإنسانية، في طبيعتها معرفة رمزية، أي معرفة ثالثانية.

«إن الإنسان لا يعيش في عالم مادّي خالص، بل في عالم رمزي. واللغة والأسطورة والفن والدين هي عناصر من هذا العالم. إنها الخيوط المختلفة والمتنوعة الناظمة لنسيج الرمزية والتجربة الإنسانية. وكل تقدّم في فكر الإنسان وتجربته يقوّي هذا النسيج ويعقّده. ولا يمكن للإنسان، بعد الآن، أن يوجد أمام الحضور المباشر للواقع، ولا يمكن أن يتقابل معه وجها لوجه، لأن الواقع المادّي يتراجع كلّما تقدّم النشاط الرمزي. إن الإنسان، بشكل من الأشكال، يبتعد عن إقامة علاقة مع الأشياء نفسها، ويتقابل مع نفسه على الدوام. إنه مُحاط بأشكال لسانية وصور فنية ورموز أسطورية وطقوس دينية بحيث لا يستطيع رؤية أيّ شيء ولا معرفة أيّ شيء دون تدخّل هذا العنصر الوسيط الاصطناعي، سواء تعلّق الأمر بالممارسة أو التنظير. إن العالم العملي للإنسان (عالم الممارسة) ليس عالم وقائع وأحداث خامّ حيث يعيش وفق رغباته وحاجاته المباشرة، بل إنه يعيش أهواءه وأحلامه وسط الانفعالات الخيالية، إنه يعيشها في الأمل والرّهبة والأوهام والحقائق»[34].

يحيا الإنسان داخل الثالثانية، إنه يسبح في كون من العلامات، هذه العلامات تبنين طريقة تفكيره وأفعاله وكينونته؛ إذ الإنسان يصل إلى الأولانية والثانيانية عبر مصافي الثالثانية. ولم يكن بوسع هذا الإنسان داخل الثالثانية أن يقوم بأيّ شيء أكثر من بناء عالمه الخاص، وهو عالم رمزي يجعله قادرا على فهم وإدراك تجربته وتأويلها وتنظيمها وجعلها تجربة كلية. وما ينظّم هذه التجربة في كليتها، هو نفسه ما يعطي ميلادا للدلالة ويحكم مسيراتها. »ما دام الإنسان قد خرج من العالم المادي، فإنه يعيش في عالم رمزي، وما اللغة والأسطورة والفن والدين إلاَّ أجزاء من هذا العالم. فهذه هي الخيوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية أعني النسيج المعقد للتجارب الإنسانية، وكل التقدم الإنساني في الفكر والتجربة يرهف من هذه الشبكة ويقويها».[35]

إن هذا الكون الرمزي يجعل الإنسان يبتعد عن المواجهة المباشرة للعالم المادي، حيث يتعذّر إدراكه إلاَّ عبر وساطة الرموز. ولعل هذا راجع، حسب إرنست كاسيرير، إلى كون الإنسان لم يعد «قادرا على أن يواجه الحقيقة مباشرة، أي لم يعد يستطيع أن يحدق فيها وجها لوجه(…) وبدلا من أن يعالج الإنسان الأشياء نفسها نراه، بمعنى من المعاني، يتحدث دائما إلى نفسه، فقد تلبّس وأحيط بالأشكال اللغوية والصور الفنية والرموز الأسطورية أو الشعائر الدينية حتى أصبح لا يرى شيئا، ولا يعرف شيئا إلاَّ بوساطة من هذه الوسائل المصطنعة».[36]

إن الرمز ليس تغليفا عرضيا للفكر، بل هو عنصره الضروري، وتبعا لذلك فكل فكرة دقيقة لا تحد سندها الثابت إلا في الرمزية وفي السميائيات التي تعتمد عليهما.

إن الدلالة الرمزية إذن، هي دلالة مركبة، بحيث لا ندرك منها سوى الدلالة الثانوية عن طريق الدلالة الحرفية أو الأولية؛ لذلك تكون الدلالة الثانوية الوسيلة الوحيدة للاقتراب من المعنى المتعدد. إن الرمز من هذه الزاوية يُظهر قصدية مزدوجة؛قصدية حرفية يتم بموجبها تحديد معنى العلامة كما هو متعارف عليه في أبعاده المباشرة، ولكن انطلاقا من هذه القصدية الأولى يمكن التطلع إلى قصدية ثانوية؛ «وهكذا ففي مقابل العلامات التقنية، الشفافة كليا، والتي لا تقول إلاّ ما ترغب في قوله، فإن العلامات الرمزية تكون كثيفة، هذه الكثافة هي التي تشكل العمق الذاتي للرمز »[37]. فالرمز هو الذي يساهم في تحريك المعنى الأول ويجعلنا ننخرط في صلب المعنى الكامن. وهو يقوم على بنية دلالية محددة، هي بنية التعابير ذات المعنى المزدوج على حد تعبير بول ريكور.

«وبناء على ما سبق، فإن أداتنا للوصول، بوضوح إلى الواقعي وإلى الممكن (المخيال) هو الفكر الرمزي. إن الرمزية تعود إلى الثالثانية: نظام الفكر واللغة والثقافة. إن هذا النظام هو أداتنا للوصول إلى الثانيانية والأولانية: الواقعي والممكن، وثمن هذا التمييز سيكون هو الانزياح. فالإمساك بالواقعي وبالممكن والتمييز بينهما يفترض خلق نوع من التباعد »[38].  بمعنى آخر، فنحن لا نستطيع إدراك العالم مباشرة، ولا يمكن أن نقول عنه أيّ شيء في غياب نظام أو شكل ثقافي ورمزي (لغة، دين، أسطورة، علم وفن…)؛ أي في غياب مقولة الثالثانية، إحدى المقولات الجوهرية في ظاهراتية بورس.

إن الأولانية هي مقولة النوعية والثانيانية هي مقولة الحدث والواقعة والثالثانية هي مقولة الفكر واللغة والقانون، هذه المقولات الثلاثة هي جزء لا يتجزأ من مجموع التجربة الإنسانية.

تمكننا هذه المقولات الثلاث من التعرّف على العلامة، بوصفها الوجه الآخر لعمليات الإدراك، وعلى الكيفية التي تشتغل بها. فإذا كانت الأولانية تحيل على الثانيانية عبر توسط الثالثانية (النوعيات والأحاسيس تتحقق في وقائع عبر قانون يضمن استمرار الإحالة وتحديد وجودها في المستقبل)، فإن العلامة أو السيرورة السميائية عند بورس لا تخرج عن هذا المنطق فهي تشتغل وفق نفس المبدأ: مبدأ الثلاثية ومبدأ الإحالة.

هوامش الدراسة


[1] –GERARD (DELEDALE): THEORIE ET PRATIQUE DU SIGNE. Introduction à la sémiotique de C. S. Peirce, PAYOT, PARIS, 1979. P:9.   

§ – تجعل ظاهراتية بورس من ظاهراتية كانط أصلا ومنطلقا لها، وليس ظاهراتية هوسرل، ولكي يميزها بورس عن ظاهراتية كانط وظاهراتية (هيغل)، فقد أعطاها اسم “الفانيروسكوبيا” وفهمها وحددها بألفاظ تتماشى مع واقعيته بدون أن تتضمن أيّ نزعة سيكولوجية.

[2] – الملاحظ أن أيّ قول جديد لا يثبت أقدامه إلاّ بأن يبتدع لنفسه مصطلحات جديدة ويعدّل في دلالة المصطلحات العامة والمتداولة كشرط لإثبات الجدّة الفلسفية لدلك اقترح بورس لبناء نظريته ألفاظ ومصطلحات جديدة للتعبير عن أفكار جديدة وقد وجدنا أنفسنا ونحن بصدد تقديم هذه النظرية للقارئ أما كمّ هائل من المصطلحات التي كنا نعرّبها أو ننقلها في لغتها الأصلية في بعض الأحيان عوض ترجمتها.

[3]PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, rassembles, traduits et commentes – par- Gérard Deledalle, ED. Seuil, Collection, L’ordre Philosophique, Paris, 1978, P:67.

[4]–GERARD (DELEDALE): THEORIE ET PRATIQUE DU SIGNE Op.cit. P:14.       

[5]–Ibid. P:15.                                                                                                                                       

[6] – GERARD (DELEDALE): THEORIE ET PRATIQUE DU SIGNE Op.cit. P:15.                           

[7] –Ibid. PP: 15/16.                                                                                            

[8] – تشالرز (موريس): رواد الفلسفة الأمريكية ترجمة. الدكتور إبراهيم مصطفى إبراهيم مؤسسة شباب الجامعة الاسكندرية 1996 مصر.ص.36.

[9] – Jean Francois Dortier : Le pragmatisme à quoi servent les idées?  La philosophie en quatre questions. N° Spécial N° 16 – mai-juin 2012.

ينظر كذلك: 

Jean-François Dortier: Philosophies de notre temps, Chapitre 6 : L’esprit et la  pensée ; ed, Sciences Humains.                                   

[10] – لمزيد من المعلومات هناك دراسات مماثلة تترجم أفكار بورس عن البراغماتية وعلاقة هذه الأخيرة بالمنطق يمكن العودة إليها:

1- The Doctrine of Chances (1878)

2- The Probability of Induction (1878)

3-The Order of Nature (1878)

4- Deduction, Induction, and Hypothesis (1878)

* The Harvard lectures on pragmatism (1903)

* What Pragmatism Is (1905)

[11] – Jean Francois Dortier : Le pragmatisme à quoi servent les idées?  La philosophie en quatre questions. N° Spécial N° 16 – mai-juin 2012.       

[12] – Jean Francois Dortier : Le pragmatisme à quoi servent les idées?  La philosophie en quatre questions. N° Spécial N° 16 – mai-juin 2012.      

[13] PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, Op.cit. P: 120.                    –

§ – إن اعتماد العلاقة أثناء حديثنا عن الظواهر (أشياء، وأحداث…) يؤكّد بالأساس أن فهمها يستدعي صلات الارتباط الكائنة فيما بينها. ويتّصف مفهوم العلاقة بالضرورة والشمولية؛ إنه ضروري لأنّ التفكير في كل ما يحيط بنا يستلزم الوقوف على العلاقات التي تؤلّفه، وشامل لأنّ أيّة ظاهرة مهما تكن طبيعتها، هي بالضرورة ظاهرة علائقية.

[14]-PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe; Op.cit. P: 121.                   

[15]–GERARD (DELEDALE): THEORIE ET PRATIQUE DU SIGNE   Op.cit. P: 16.         

[16]–Ibid. P: 17.                                                                                                        

[17]–Ibid. P: 17.                                                                                                        

[18]–Bruzy (C)  Burzlaf (W)  Marty (R) Réthoré (J): “La sémiotique phaneroscopique de Charles S.Peirce“.in langage 58, P:32.     

[19] – سعيد (بنكراد): “سميائيات بورس”، مجلة علامات العدد 1 السنة الأولى ربيع 1994، ص:5.

[20]        -DAVID (SAVAN): “ La Sémiotique de Charles S. Peirce “ in Langage 58, ED, Larousse, P: 10.

[21]PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, OP.Cit, P: 22.                     –

[22]–  PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, OP.Cit, P:70. Et 22.         

[23]Ibid, P:70.                                                                                                       –

[24]– Ibid, P: 84.                                                                                                      

[25] – سعيد (بنگراد): “سميائيات بورس” مجلة علامات العدد 1 السنة الأولى ربيع 1994، ص:6.

[26]– PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, OP.Cit, P:22.                                          

[27]–   GERARD (DELEDALE): COMMENTAIRE, IN Ecrits sur le signe, P: 209. 

[28] PEIRCE (Charles Sanders): Ecrits sur le signe, OP.Cit, P: 95.                    –

[29] – سعيد (بنگراد): “سميائيات بورس” مرجع مذكور، ص:7.

[30]– Nicole (Everaert _Desmedt): Le Processus Interprétatif, Introduction à la sémiotique de C. S. Peirce ; Ed ; Mardaga Editeur, 1990,P:35.                    

[31]Enrico (CARONTINI): L’ACTION DU SIGNE, OP.Cit, P:18.              –

[32]– Nicole (Evereart_Desmedt): Le Processus Interprétatif, OP.Cit:35             

[33]– GERARD (DELEDALE): COMMENTAIRE, IN Ecrits sur le signe, PP: 209/210.      

[34] -Cassirer (Ernest): Essai sur l’homme. Paris Minuit, 1975, PP:43/44.            

[35] – كاسيرر (إرنست): مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية أو مقال في الإنسان، ترجمة إحسان عباس، مراجعة محمد يوسف نجم، دار الأندلس-بيروت بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين المساهمة للطباعة والنشر، بيروت-نيويورك، 1961، ص: 67

[36] – المرجع نفسه، ص:67.

[37]– Paul (Ricoeur): Le Conflit des interprétations ;Ed ; Seuil ;Paris ;1969 Coll ‘ L’ordre. Philosophique’ ;PP:285/286.  

[38] – نيكول (إفرات – دسمدت): “الرمزية والمخيال والواقعي” ترجمة وتقديم سعيد بنگراد مجلة علامات العدد 3، ص:70.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.